فتاوى الجهاد بين التشغيل والتعطيل


شهد عدد وافر من الصحف العربية والإسلامية وكذا المواقع الإليكترونية سجالا عنيفا بين من يدافع بصورة عمياء غير نقدية عن الحالة الإفتائية للأمة، وبين أولئك الذين اعتبروا أن حروب المنطقة المتجددة كشفت مثالب منهج النظر لحالة الأمة، ووهن اللياقة العملية لفتاوى الجهاد التي أثيرت مع سعي علماء الأمة وقياداتها الروحية لإدارة هذه الحروب، ولتعبئة الروح القومية في مواجهة الموجة الاستعمارية الثالثة وربيبتها المعتادة: الصهيونية اللتان تستهدفان فرض النموذج الأميركي للحياة، وكذا نمط السلام الأمريكي، على العالم تحت مسمى العولمة؛ ضمن مشروع يقول بنهاية كل من التاريخ والأيديولوجيا، ويقف بالتطور البشري عند قدم الإنسان الليبرالي، فضلا عن سعيها لإسكات كل من يقول: لا.


مساحة التجديد: المنظور أم المنهج

لا شك في أن حالة الإفتاء بخصوص قضايا الجهاد تحتاج لوقفة نحاول فيها أن نستعرض أطر الاجتهاد الممكنة، والتي يتيحها الظرف التاريخي، أو نستنهض الهمم لابتكار أطر ومنظورات وأدوات وآليات جديدة، بما يفيد تجديد أساليب إدارة العلاقة مع ركائز قوة الموجة الاستعمارية الثالثة وربيبتها المعتادة: الصهيونية.

والحقيقة أن الجهاد ماض إلى يوم القيامة، تقصر عن القدرة على تعطيل نصه ووقف عجلته القوى المختلفة؛ سواء أكانت قيادات سياسية متجبرة متغولة على شعوبها، أو قيادات دينية توهمت في الخطأ الصواب، أو ابتغت رضا الله من باب رضا الإمام الذي توقف البعض عن اتهام إمامته بالجور والفساد في إطار هذه الأزمة التاريخية التي كانت الأمة فيها أحوج ما تكون إلى التماسك. ومن خلال هذا السجال المشار إليه، يكشف الخطاب المستخدم عن وجود أزمة حقيقية تتعلق بالمدرك الكامن وراء العين الناظرة لفتاوى الجهاد.

والواقع أن الأزمة من وجهة نظري قد بارحت حالة الإفتاء والواقعة محل الاستفتاء لتطال منظور الإفتاء نفسه، والذي أرى في معالجته مفتاحا لتجديد العمل الإفتائي، والخروج به من حيز الحلقة المفرغة إلى المجال المتسع لقدرات هذه الأمة أفرادا وتجمعات أهلية ومدنية.

ويبدو أن أزمة منظور الإفتاء كانت حادة لدرجة دفعت البعض للتطاول في قدحه، واتجه البعض الآخر للاستماتة في الذب عنه؛ متصورين أن من يرغب في تجديد المنظور فإنه يتجنى على فريضة أقر النبي صلى الله عليه وسلم أنها إلى يوم القيامة ماضية. وبرغم رجاحة المنظور الداعي للتجديد، وضعف الردود الواردة عليه، فإنه كان بحاجة لمزيد تدقيق. وكشأن العلاج، فإن التجديد قد يواجه الفشل إن تجاوز مساحة العطب بأي زاوية من الزوايا، فخلايا المناعة في الأمة وافرة وقوية وربما متكلسة أيضا، غير أن هذه الخلايا المناعية مطالبة بالتدقيق أيضا في الطرح المقدم للتغيير، بخاصة في حالات الأزمة التي تمر بها الأمة، والتي لا خلاف على أن التوقيت الراهن يمثل حالة نموذجية من حالاتها.


الفتاوى بين التعطيل والتشغيل

تنقسم الفتاوى من وجهة نظري إلى نوعين أساسيين من حيث قدرتها التعبوية والحركية أو قدرتها على التحول لسلوك التزام مؤمن. ووفقا لهذا المعيار تنقسم الفتاوى إلى فتاوى تعطيلية/أرشيفية وفتاوى تشغيلية. وهذا المعيار في التصنيف استلهمته من القرارات الإدارية.

فالقرارات الإدارية التي تتبعها أنظمة الإدارة المختلفة يمكن أن نقسمها إلى قسمين: القسم الأول هو القرارات الأرشيفية؛ وهو نوع من القرارات هدفه إبراء ذمة الإدارة التنفيذية فيما يتعلق بتبليغ توجيهات القيادات المكتبية الأعلى في الهرم الإداري لعموم الموظفين من دون تحديد مسؤوليات موظف معين، كأن يصدر قرار إلى عموم الموظفين بضرورة الاقتصاد في المياه لأن الإسراف فيها إهدار لمورد قومي. وهذا القرار لا يمكن تصور مسؤولية تنفيذه. ومن ناحية أخرى، نجد أن هناك نوعية من القرارات التي تتضمن تحديد هدفها والمسؤول عن التنفيذ وأجل التنفيذ وإطار التنفيذ من حيث قواعد الثواب والعقاب الوظيفية. وهذا هو ما نسميه القرار التشغيلي الذي تعتمد عليه المؤسسات فعلا لتنفيذ سياساتها.

وكذلك الفتوى. أنا أتصور أن ثمة ضرب من الفتاوى يصدره العالم الشرعي أو الجهة الإفتائية لتبرئة ذمته أمام الله جل وعلا من دون أن تكون هذه الفتوى قابلة للتنفيذ. في حين أن بعض الفتاوى تكون موجهة للإرادات الحرة للأفراد والجماعات بما يعني إمكانية تنفيذها. فما معنى هذا الطرح؟!

من خلال الحرب على أفغانستان في عام 2002م، وجدنا عددا من الفتاوى لعدد من المفتين أو الجهات الإفتائية مضمونه أن الجهاد بالقتال هو فرض عين على كل مسلم ومسلمة، وزاد عدد هذا النوع من الفتاوى مع الحرب الجائرة على العراق وأهله. والأصل في هذه المساحة أن هذا النوع من الجهاد لا يمكن – منطقا وعملا – أن يكون فرض عين، فلا العراق تتسع لكل المسلمين ولا أفغانستان كذلك، ولا هما معا. فضلا عن أن مثل تلك الفتاوى لم تأخذ في الاعتبار تلك القوى الحكومية وغير الحكومية التي تكبت قدرات الفعل لدى الأمة، وهي القدرات التي لا تقتصر على الأدوات العسكرية التي نرى أنها من أقل أدوات الدفاع عن الأمة قدرة على حسم مثل هذه المعركة. فما الذي نريده بخلاف هذه الفتاوى؟!

وخلاصة هذا المحور من محاور المقال أننا ندعو فقهاء الأمة لعدم إضاعة وقتهم الثمين في إصدار فتاوى لا تصادف إمكانات فعل لدى الأمة، بل عليهم أن يتحروا إمكانات فعل الأمة ويفتون بما يستثمر هذه الإمكانات. ولكن.. هل تسمح أزمة المنظور الفقهي لفقهائنا بتحري إمكانات الأمة؟ هذا ما يحتاج لفحص في الجزئية التالية.


المنظور الفقهي مناط التجديد.. لا المنهج

أنا أضع صورة أزمة الحالة الإفتائية العربية والإسلامية، حيال قضية الجهاد بصفة خاصة، باعتبارها نوع من الوهن المستشري في منظور الإفتاء. والواقع أني أذهب لأبعد من هذا بكثير، حيث أتهم الجهات الإفتائية التي تصدر تلك الفتاوى بأنها جهات لا تعي مصالح الأمة، وتفتقر للملكات التجديدية بقدر ما تفتقر القدرة على معرفة الهدف الحقيقي التعبوي من وراء الفتوى، ولا قدرة لديها على تقديم طرح إفتائي جاد يخدم الأمة ويقودها بسبيل استثمار إمكانياتها على النحو الأمثل.

لكن هذه المقدمة تحتاج لتبيين. إن الله قدم الإيمان به ووفر الأدلة العقلية والحسية على هذا، كما شرع عقائد البعث والحساب لحكم كثيرة نبصر منها أنه أراد تحفيزنا لطاعته. وكذا تصنع الفتوى، فهي نافذة إلى الحكم الشرعي الذي ارتضاه الله، فهل مما يرضي الله جل وعلا أن تنتهك حرمات الأمة كجماعة وحرمات المسلمين كأفراد في الوقت الذي لا تحاول الفتاوى فيه تقديم سبيل لتجاوز هذا الواقع ومعالجته.

إن الجهاد ماض إلى يوم القيامة كما أنبأنا الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يستطيع أحد أن يقول بتحريمه ولن يجرؤ أحد على تجريمه أو إبطاله، ويبقى في النهاية أن نوضح أن الشق العسكري منه مرهون بموازنات بين مستويات المصالح والمفاسد، ومناحي الضرر المباشر والنفع المباشر، وهذه الاعتبارات وغيرها تجعلنا نقدِّر أن هذا الطرح مبني "في منظوره" على حالة القرار الجماعي أو القرار الذي يشارك فيه "ولي الأمر" الغائب/الحاضر في بيئتنا العربية والإسلامية الحالية.

وحتى لو تصورنا أن أي فرد يمكن أن يذهب لساحة الجهاد بدون إذن الإمام، فإنه - بلا شك - يتحرك في بيئة جماعية لا يستطيع بت صلته بها. فهو في تنفيذه لرغبته يتعاطى منتجات القرار الجماعي من حدود سياسية مغلقة بفعل القوات العسكرية للدول العربية والإسلامية، والتي يؤدي الاحتكاك بها لدرجة من درجات الحرب الأهلية التي تحول دون تحقيق الهدف من تحرك الناس للجهاد العسكري، بل تزيده بعدا على بعده، ودعاوى اقتراف فعل مجرَّم قانونًا، ومحاكمة أمام قضاء استثنائي، واحتمالات تعرض أهله لمضايقات تصل لحد انتهاك العرض واستباحة الدم والمال..إلخ. ولا أدل على مدى ما يكتنف ذلك المسار من صعوبات حال التنظيمات الإسلامية التي تبنت منهج العنف وارتأت إزاحة النظم الحاكمة من طريق الجهاد لمقاومة القوى الاستعمارية، وقد قاومتها الأنظمة الحاكمة بضراوة برغم أنها تعي أن تلك القوى الاستعمارية تلتهم خيرات الأمة وإراداتها.


بين منظوري القرار: الفردي والجماعي

ما عرضناه سابقا يمثل الصورة المأساوية التي تترتب على الاعتماد على منظور القرار الجماعي في الإفتاء. فالنتيجة هنا إما تعطل فعل الجهاد وإشاعة روح اليأس في الأمة، أو محاولة إزالة القوى التي تمنع الأمة عن ممارسة الجهاد العسكري، وقد أثبتت خبرة ممارسات التنظيمات الإسلامية المسلحة استحالة تجاوز معطيات هذا المنظور الجماعي من دون دفع ثمن باهظ جدا.

ولكن، هل يعني ذلك انتفاء القدرة على الفعل في مجتمعاتنا العربية والإسلامية حيال حالة الاستلاب المنظم التي نحياها؟ والإجابة تبدأ من اعتبار أن الفتوى المستندة إلى "منظور القرار الجماعي" لا تلجأ للمساحات التي لدى الأفراد قدر عال من حرية الحركة فيها. أما "منظور القرار الذاتي" فمصطلحٌ يستهدف دعوة الفقيه للنشاط في الدائرة التي يتمتع فيها الفرد المسلم بحرية الحركة، وهو ما ننادي باللجوء إليه والتنادي به بين الفقهاء ومنحه الأولوية من دون هجران لمنظور القرار الجماعي متى تيسرت سبل اللجوء إليه. فالأساس في الفقه أنه متوجه إلى فعل المكلف بغير إكراه ولا قسر ولا غياب وعي، فكيف يتوجه الإفتاء بالفعل إلى مساحة يصعب فيها اعتبار المرء متمتعًا بحرية الاختيار في التصرف.

فالفرد المسلم من خلال الجهاد الاقتصادي - كمثال - قادر على أن يقاطع ما شاء من السلع في أي وقت شاء، وقادر على إسداء العون الاقتصادي لمن يريد وقتما يريد، وقادر على أن يعبئ قدراته الخاصة لتحقيق أهدافه. ولا تملك السلطة حق فرض استهلاك سلعة بعينها عليه، ولا تملك منعه من إدارة أمواله بالطريقة التي يريد، ليتبرع بها حيث يريد، أو يحبسها حيث يريد، أو يستثمرها حيث يريد، إلا لو كانت كل مناحي الحياة محل مصادرة واستلاب كما كانت تشهد بعض دول الجنوب قديما، وهذا نموذج حياة لم يعد حاضرا إلا قليلا، حيث تراهن كل الأنظمة القمعية على مصادرة الحياة العامة لمصلحتها وترك المساحات الخاصة لأصحابها.

بالطبع ما نشير إليه هنا من منظور لا يعدو أن يكون "اكتشافا محدودا" لفرصة سانحة من فرص التجديد واكتشاف إمكانات الفعل، وإمساكًا بمنظور مختلف، يحكم مساحة من مساحات الجهاد مختلفة في خصائصها الذاتية عن قضايا الجهاد الأخرى. ومن ثم فنحن في حاجة لتجاوز هذا الشكل وهذه الفرصة التي اكتشفناها واكتشفنا فاعليتها إلى فرص أخرى نقوم فيها بتفعيل منظور القرار الفردي لاكتشاف إمكانات جديدة لدى الأمة لمقاومة هذا المشروع الاستعماري الذي رفض الاكتفاء بالأداتين الاقتصادية والثقافية للاستعمار واجتهد ليوسعها فتطال الأدوات السياسية والعسكرية أيضا. نحن في حاجة لاعتبار منظور القرار الفردي مدخلا للنظر بعين فاحصة لأشكال الجهاد الممكنة، والاختلافات البينية في هذه الأشكال، وما تتيحه هذه الاختلافات من إمكانيات فعل وفاعلية تخرج بفتاوى الجهاد عن حيز الأرشيفية إلى حيز الفاعلية. فمن الخطأ أن نتصور أن الجهاد كل واحد مصمت لا تعدد فيه.

وتبقى الإشارة حية إلى أننا لا نعطل أي بديل يوفر للأمة حيويتها في إدارة شؤونها، بل ندعو لفتح طرق جديدة واكتشاف سبل أكثر رحابة إذا ما ضاقت السبل القائمة أو سدتها ركامات العسف الدولي والجور المحلي.

نسأل الله أن يرزقنا البر والعافية،،

تعليقات