المقاطعة الاقتصادية.. القوة الاجتماعية والسياسية لعقيدة الولاء والبراء


حيوية الأمة متعطلة مع أن موارد هذه الحيوية متاحة. وأهم مواردها موردان اثنان هما: عقيدتها وتماسكها. أما عقيدتها فهي التي عزَّت بها، وتحولت على إثرها أمة العرب من أمة مقهورة من جانب القوى الدولية آنذاك (الفرس والروم) إلى أمة تمكنت من إخضاع العالم لكلمة العدل المطلق، وللمفهوم الإنساني الواسع لكلمة حقوق الخلق، والتي لا تربط حقوق الخلق بنسبية تفوق دولة معينة، أو قطب معين، أو عصبية معينة، بل تربط حقوق الخلق بتوحيد الخالق رب كل الخلق بلا استثناء مبني على الأعراق أو اللغة أو غيرها.

لقد حررت العقيدة الخلق جميعًا من المفهوم اليهودي للحق، والذي يقصر الحقوق على اليهود فقط، ويعتبر بقية الأمم والحيوانات سواء، حيث قالوا كما نقل القرآن عنهم: "ليس علينا في الأميين سبيل" (آل عمران: 75)، كما ورد في التوراة التي بين أيديهم الآن. لكن التزام عقيدة الإسلام رتب للمسلم المزيد من الواجبات في أعناق إخوانه المسلمين.

أما المورد الثاني من موارد حيوية الأمة وقوتها هو تماسك الأمة. والرابط بين الموردين من موارد حيوية الأمة حاضر. فهذا التماسك نابع من تلك الواجبات التي رتبها الدين على المسلمين لصالح إخوانهم المسلمين. تلك الواجبات التي تجد مصدرها في عقيدة الولاء والبراء التي تعد ضمن العقائد التي يقاس بها إيمان المؤمن من حيث تمامه أو وجوده أساسًا.


الولاء: من العقيدة إلى الواجب العملي

ومعنى الولاء هو حُب الله ورسوله والصحابة والمؤمنين الموحدين ونصرتهم. ويرتبط بالولاء مفهوم آخر بمنطق المخالفة، ألا وهو مفهوم البراء الذي يعني بُغض من عادى الله ورسوله والصحابة والمؤمنين الموحدين وأساء إليهم. فكل مؤمن موحد ملتزم للأوامر والنواهي الشرعية تجب محبته وموالاته ونصرته. وكل من عادى الله ورسوله والمسلمين وجب التقرب إلى الله تعالى ببغضه واتخاذ موقف منه ومن فعله بحق الله ورسوله والمؤمنين حتى يكف أو يهديه الله، قال تعالى: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض" (التوبة: 71). وبهذا نجد أن الولاية ثابتة إيجابًا بنص الأصل الأول: القرآن الكريم.

وقد نفت السنة وقبلها القرآن تمام الإيمان عمن لم يوال الله ورسوله والمؤمنون. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (رواه الشيخان والترمذي والنسائي) وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا.." (رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة).

وأما عن النصرة فقد قال الله تعالى: "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من لدنك وليًا ، واجعل لنا من لدنك نصيرًا" (النساء: 75). وقد ركز النبي صلى الله عليه وسلم على ذات القضية بقوله: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" (رواه الشيخان والترمذي وأحمد)، وكان المعنى بنصره ظالمًا رده عن الظلم.

وإذا كان الله تعالى قد أوجب نصرة المسلم لأخيه المسلم ولو باستخدام آلية القتال، لقوله تعالى: "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليًا واجعل لنا من لدنك نصيرًا" (النساء: 75). ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالنصرة هذه، فلماذا نجد المسلم لا يتألم لما تفعله دولة الاحتلال الصهيوني، وحليفها الأساسي الولايات المتحدة بإخواننا في فلسطين، الذين لا ذنب لهم إلا أن السياسة الاستعمارية في مطلع القرن العشرين قد وضعت أرضهم على خارطة المصالح الاستعمارية؟ ومالهم لا يتألمون لما حدث من تبول بعض رعاع الخلق على القرآن.. إلخ، وما أكثرها من أحداث تتابعها آذاننا وأعيننا اليوم.

وقد يرى البعض أن معاقبة الأمة الإسلامية للمخطئين في حقها، متعذر لوقوف بعض الحكومات على مستوى العالم الإسلامي عقبة كأداء في وجه إعلان فتح باب الجهاد. وقد يقول قائل: وكيف لنا بمقاتلة الولايات المتحدة أو فرنسا مقابل إساءاتهما؟ ولكن هذا ليس بعذر. فما من أحد ربط العقوبات بالقتال فقط. فسبل الجهاد كثيرة لا تحصى، وسبل النصرة متعددة متوفرة لمن أراد. هل تريد أن تعرف كيف؟


مراتب الجهاد.. الأصغر والأكبر والمستطاع

دأب علماؤنا على توضيح معنى الجهاد عبر القرون، مميزين فيه بين الجهاد الأصغر، والجهاد الأكبر، مستندين في ذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" (الحديث في الإحياء مروي بسند ضعيف عن جابر، ورواه الخطيب في تاريخه عن جابر).

فالجهاد الأصغر هو بذل النفس أو المال أو كليهما لجعل كلمة الله هي العليا. الجهاد هو بذل النفس أو المال في ميدان الشرف، حيث يسترخص المسلم روحه لإعلاء كلمة الله، ولنصرة لإنسان المستضعف سواء أكان مسلمًا – استنادًا لحقوق الخلق ولحقوق كمسلم أيضاً، أو كان غير مسلم لحقوقه كمخلوق إنساني وجب على أمة الإسلام إخراجه من العبودية للعباد والمصالح والشرائع التي تنتهك إنسانيته التي كرمها الله إلى رحاب شرعة الله التي كفلت له حقوقه، ولو كان غير مسلم. فما كانت الدعوة لدين الله، والفتوحات الإسلامية، إلا سعيًا لتحقيق إنسانية الإنسان في مواجهة طاغوت بشري أنكر هذه الحقوق التي تمتع بها الإنسان لمجرد أن الله تعالى خلقه إنسانًا، مع صيانة حقه في اختيار دينه، وعدم إكراهه. هذا هو الجهاد الأصغر.

أما الجهاد الأكبر الذي عناه رسولنا صلى الله عليه وسلم فانصرف إلى تحصين المسلم نفسه، تحصينه من الداخل، تحصينه من أسباب الوهن الأربعة: النفس والهوى والشيطان والدنيا. وكلها أدواء متداخلة لا يكاد يفصلها عن بعضها فاصل. أما عن الدنيا: فقد أمر الله المسلم بإعمارها وامتلاكها لكن البعض قد تمتلكه الدنيا فيركن لها، وينسى أن له رسالة في ترشيدها وتقويمها وإعمارها، وإذا امتلكته الدنيا سعى لها على حساب آخرته، بدلا من أن يبتغي بإصلاحها الفوز بآخرته. والشيطان: يزين حب الدنيا لذاتها، كما يزين للإنسان الجور على حقوق الآخرين في هذه الدنيا عبر الإفساد والتباغض. والنفس: هي ميل الإنسان لإشباع غرائزه دون أن يدرك أن هذه الغرائز وسيلة لاستمرار الحياة، فتتحول النفس بفعل أثر الدنيا إلى تأليه الغرائز واتخاذها غاية. وأما الهوى: فيجمع ذلك كله حين يرد صوت العقل والضمير عن الصواب لصالح ميل إلى امتلاك الدنيا وإعلاء الغرائز وتأليها. فالدنيا تصير نقيض الآخرة إذا امتلكت الإنسان، والشيطان يصير عدو إنسانية الإنسان إذا تسلط عليه، والهوى يصير عدو العقل إذا ما لم يقيد الإنسان نفسه بالشريعة، والنفس تصير عدوة حكمة الشرع إذا ما صارت غرائزها هي الغاية وكل هذه الأدواء وقف الجهاد الأكبر لمداواتها، وتحصين المسلم منها.

إن خضوع أفراد الأمة وشعوبها لعوامل الوهن هذه يجعلهم موضوعًا لتداعي الأمم، على نحو ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قِلّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول اللّه، وما الوهن؟ قال: "حبُّ الدنيا وكراهية الموت" (رواه أبو داود). وهدف هذا التداعي الذي حذر منه نبينا صلى الله عليه وسلم هو إقصاء الأمة عن دورها الرسالي في تحرير العالم من العبودية للمادة وللمستكبرين الطواغيت. ووقوع أفراد الأمة في براثن هذا الوهن هو مفتاح عدم اكتراثهم بتداعي الأمم على أمة الإسلام، بل ربما يكون سببًا في موالاة المسلم لغير المسلمين في تداعيهم على أمة الإسلام.

أما الجهاد المستطاع فهو شرعة التيسير إذا ما تعذر الجهاد الأصغر. لقد قال الله تعالى: "فاتقوا الله ما استطعتم" (التغابن: 16). وقد فسر لنا النبي الكريم تلك الآية فيما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك أهل الكتاب قبلكم، أو من كان قبلكم، بكثرة اختلافهم على أنبيائهم وكثرة سؤالهم، فانظروا ما أمرتكم به فاتبعوه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فدعوه أو ذروه". وعندما ننظر لقول الله: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض" (التوبة: 71)، وجمع الأحاديث النبوية معًا يجعلنا لا نقف مكتوفي الأيدي عند حدود قصور المقدرة العسكرية العربية والإسلامية عن مواجهة البغي الصهيوني، أو مقاومة بعض مظاهر العداء الغربي غير المبرر للإسلام ورموزه والمنتسبين إليه، بل يدفعنا لنفتش عن المقدور والمستطاع. والمستطاع كثير، وعلى رأسه الدعاء كما أن من أولوياته المقاطعة الاقتصادية.


مستويات قرار الجهاد

الحياة - كل الحياة - لا تسير إلا عبر اتخاذ مجموعة من القرارات فالحكومات لكي تضع سياساتها موضع التنفيذ لابد لها من ترجمة هذه السياسات في صورة قرارات. والشركات لكي تحقق مستهدفاتها لابد لمجلس إدارتها من إصدار قرارات تحمل هذه الأهداف لحيز التنفيذ. وكذا المنظمات الأهلية والأفراد. فحياة الأمم والشعوب والأفراد لا تسير إلا وفق قرارات تصاعدية. فالفرد يتخذ قراراته في كل لحظة من لحظات حياته لتحقيق طموحاته ولتسيير حياته. وعندما تتطابق قرارات مجموعة من الأفراد فإنهم يشكلون جماعة منظمة أو تجمع غير منظم، وقرارات أمة من الأمم هي تقاطعات قرارات جميع أفراد هذه الأمة ومن بين هذه القرارات قرار الجهاد.

إن قرار الجهاد الأصغر لا يمكن أن تتخذه سوى سلطات كبرى، لها القدرة على تعبئة موارد الخاضعين لها، سواء أكانت موارد بشرية، أو موارد مالية. لكن بصرف النظر عن استطاعة هذه الحكومات اتخاذ هذا القرار من عدمه، يظل التكليف الإلهي بالجهاد قائمًا، لا يقدح في مخاطبة الأمة به أن القرار السيادي تعيقه معوقات كثيرة، منها ما هو معتبر، ومنها ما هو غير معتبر. وعدم الامتثال لأمر شرعي واجب معناه وقوع الأمة بأسرها في الإثم، ما لم تقم مجموعة من الأمة بتنفيذه.

والأمر الواجب شرعًا الذي نتحدث عنه يمكن التعرف إليه من خلال الإشارة إلى آيتين قرآنيتين، جعل فيهما الله تعالى سببًا ونتيجة. هاتان الآيتان هما:

أ – أما السبب فيتمثل في قوله تعالى: "إن هذه أمتكم أمة واحدة.." (الأنبياء: 92).

ب – وأما النتيجة فتتمثل في تكليفه تعالى: "وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر.." (الأنفال: 72).

فالجهاد الأصغر تحاول جل الحكومات منعه لضغوط واقعة عليها. والبقية الباقية من الحكومات التي توافق عليه، ولا تحظره لا تجد عونًا عليه. فهل يحق للأفراد القيام بذلك؟ والإجابة أن الجهاد باستخدام آلية القتال تجرمه الحكومات على أفرادها، وتضع له عقوبات شديدة في غالب الأحيان. ومن لم يجد مشقة وعنتًا من حكوماته أمكنه الخروج كحال بعض المسلمين الغربيين الذين رأوا في الانضمام لحركة طالبان صورة من صور الجهاد. لكن الخطر والمنع والتجريم في الدول العربية والإسلامية يطال خيارات الجهاد المسلح. لكن هناك أمور لا تخضع لقوانين التجريم ومراسيمه. وهذا ينقلنا تباعًا للجهاد المستطاع كأحد مراتب الجهاد التي يمكن وصفها بأنها "جهاد الساعة" وهي القرار الفردي.


القرار الجهادي الفردي

الجهاد المستطاع جهاد لا يخضع لرقابة أي من الحكومات. فهذا الجهاد يتم في إطار قرارات المسلم العادي اليومية، ونعني بها قراراته الاستهلاكية. فمثل هذه القرارات غير خاضعة لقوانين الحكومات، فلا توجد حكومة تملي على مواطنيها ما يأكلون، وما يشربون، وما يلبسون. فهي كلها قرارات فردية. ومن ثم يكون مستوى الجهاد عبر القرارات الفردية الاستهلاكية متاحًا للجميع، يأثم من لم يراع فيه عقيدة الولاء، إنها أمر يمس جوهر الاعتقاد.

فها هنا لم يعد الأمر مجرد حكم فقهي، بل صار الأمر ميزانًا لعقيدة المسلم. هل حقًا يحب المسلم ربه ورسوله؟ وهل حقًا يوالي من يواليه الله ورسوله، ويعادي من يعاديه الله ورسوله؟ ألا يعلم المسلم أن الله لا يرضى بانتهاك حرمة المسلم وحرمة الإنسان عمومًا على نحو ما تفعله الولايات المتحدة من إرهاب وقتل في فلسطين والعراق وأفغانستان، ومن قبلهم فيتنام وبنما والصومال؟ لقد قرن الله ولايته، أي: حبه ونصرته بنصرة رسوله وبنصرة المؤمنين على أقل تقدير، وبنصرة المستضعفين على أكثر تقدير. فقد قال تعالى في نصرة المؤمنين: "ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون" (المائدة: 56)، وقال تعالى: "الله ولي الذين آمنوا .." (البقرة: 257)، وقال تعالى: "ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا.." (محمد: 11). كما قال في نصرة المستضعفين: "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليًا واجعل لنا من لدنك نصيرًا" (النساء: 75). أفبعد هذا يصير لدى المسلم المؤمن شك في أن الولاء لله يعني موالاة المؤمنين والذود عن المستضعفين؟


نواقض عقيدة الولاء

في بيان ما ينقض عقيدة الولاء ويهدمها؛ نجد أن أكبر هذه النواقض أن يستحل المسلم دم المسلم أو عرضه أو ماله فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: "إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا" (متفق عليه).

كما أمر الله كذلك بعدم موالاة المسلم لغير المسلم الذي يعادي الإسلام وأمته. فالله تبارك وتعالى قال: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين" (آل عمران: 28)، وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء" (الممتحنة: 1). وهذا نص قاطع بتحريم موالاة أعداء المسلمين. وأما نص سورة آل عمران: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء" (آل عمران: 28) فقد أكمله الله تعالى بقوله: "إلا أن تتقوا منهم تقاة"، فهذا هو الاستثناء الوحيد الذي يمكن معه للمؤمن أن يداري غير المسلم. وهنا لا نجد أن الاستثناء الوحيد من هذا الحكم يمس القرارات الاستهلاكية. فقوله تعالى: "إلا أن تتقوا منهم تقاة". يعني فقط اتقاء شر أعداء المسلمين وعموم الكفار ومداراتهم، وردهم عن النفس والأمة في حال الضعف، وهذا الحكم الشرعي لا يشمل - قطعًا - القرارات الاستهلاكية. فأي مداراة في استهلاك سلع أعداء المسلمين التي تباع في أسواقنا بعيدًا عن بلاد هؤلاء الأعداء بآلاف الأميال، وبلا أي ضغط لشرائها؟


عقيدة البراء الوجه الثاني للعملة

الأصل في عقيدة البراء قوله تعالى: "لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم" (المجادلة: 22)، وقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة .." (الممتحنة: 1). وقد نزلت هذه الآية الأخيرة في الصحابي الجليل حاطب ابن أبي بلتعة الذي كان قد حاول تنبيه كفار قريش إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم ينتوي حربهم، فنبه الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم لهذا السلوك؛ فتدارك الأمر، ونزل الأمر الإلهي موجهًا ذلك الصحابي الذي شهد غزوة بدر إلى السلوك القويم، ألا وهو وجوب البراءة من المشركين.

وقد أنزل الله تبارك وتعالى سورة كاملة هي سورة التوبة وافتتحها بغير بسملة ، حيث قال تعالى: "براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين" (التوبة: 1)، وقال تعالى: "وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله برئ من المشركين ورسوله" (التوبة: 3). ولفظ "رسوله" في هذه الآية معطوف على لفظ الجلالة، فالله ورسوله برءاء – معًا - من المشركين. ثم يوضح الله تعالى سبب البراءة، وسبب تحذير المؤمنين من هؤلاء القوم، فيقول عنهم في الآية الثامنة من نفس السورة : "كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة..". ويقول في الآية العاشرة من نفس السورة: "لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون". فهم معتدون على أمة الإسلام، لا يرقبون في أهلها أي عهد أو وثيقة حقوق، ولا يعترفون لهم بحق الوجود.

ولذا نجد الله تعالى يقول في الآية الرابعة عشرة من نفس السورة: "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم، ويخزهم، وينصركم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين". فهذه الصدور المؤمنة التي ثكلت أبناءها أو آباءها أو إخوانها تريد أن تتشفى ممن نقض كل عهد، ومزق كل وثيقة حق. وما لم يكن التشفي منهم في ساحة الجهاد الأصغر ممكنًا فإن الله تعالى جعل مراتب الجهاد المستطاع متاحة لكل مؤمن، لتبرز المقاطعة الاقتصادية كأكثر الوسائل فعالية في مجال تعذيب أعداء الله وأعداء المسلمين بزيادة حسرتهم على أموالهم التي خسروها بمناصبة المسلمين العداء. وهذا المعنى لفت الله إليه أفئدة أولي الألباب من المؤمنين.

ففي نفس السورة عرض المولى جل وعلا لذات المعنى، وكأنه ينبه إلى المقاطعة الاقتصادية، حيث يقول تعالى: "قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ، والله لا يهدي القوم الفاسقين" (التوبة: 24). فالله جل وعلا هنا ذكر الأموال التي اقترفها المسلمون، والتجارة التي يخشون كسادها، وقارنها جل شأنه في حب المسلم لها بحبه لله ورسوله. تلكما كفتا الميزان اللتان أوضحهما الله للمؤمن، وانتظر أيهما يرجح لديه: هل يرجح لديه حب الله وحب رسوله ؟ أم يرجح حب التجارة وحب المال ؟ هذا بالنسبة للتاجر.

أما بالنسبة للمستهلك فالأمر أخطر. فإحدى كفتي الميزان بها حب الله وحب رسوله، والكفة الأخرى بها رغبة في استهلاك سلعة ينتجها عدو لله ولرسوله وللمؤمنين. وهنا ينتظر الله تعالى، كما ينتظر رسوله أن يجتاز المسلم مثل هذا الابتلاء الميسور، فيعلو حب الله ورسوله حب سلعة ينتجها عدو الله وعدو رسوله وعدد المسلمين. والله تبارك وتعالى لم يدعنا نجتز هذا الامتحان الميسور وحدنا، بل دعمنا بمجموعة وفيرة من السلع البديلة تعيننا على اجتياز هذا الامتحان.

والحق أني أرى الدعوة لإستراتيجية شاملة للمقاطعة تتولى حصر المنتجات التي تستوردها أمتنا، ووضع قوائم بالبضائع العربية والإسلامية والجنوبية البديلة. حتى يرعوي المسيئون عن إساءاتهم ويرجع البغاة عن بغيهم.

تعليقات