الخطاب الإسلامي.. الماهية ودلالات التجديد


كثيرة هي الكتابات التي تناولت الخطاب الإسلامي بالفحص والدعوة إلى التجديد، من دون أن تحاول معرفة ماهية هذا الخطاب، وتدقيق النطاق الدلالي للمصطلح، ومعرفة النسابية الحضارية التي تجعل العلاقة بين هذا الخطاب وبين مرجعيته أكثر من مجرد علاقة ارتباطية وثيقة، بل أوثق من أن تكون علاقة عضوية.

وبداية الحديث عن تجديد الخطاب الإسلامي تنطلق من التعرف على مشتملات هذا الخطاب، ومكوناته، ومرجعياته، ودلالاته التي قد تتقاطع مع دلالات أخرى كالفقه والشريعة والتدين والاجتهاد والبرنامج السياسي، فكل هذه الدوال اللغوية تتقاطع في حقولها الدلالية مع دلالة مصطلح الخطاب الإسلامي، وتكاد تشكل بعض أبعاده. وهو ما يدفعنا للتساؤل عن ماهية الخطاب.



ما هو الخطاب الإسلامي؟


ذكرت الخبيرة باربارا جونستون المتخصصة في مجال تحليل الخطاب أن معظم الدارسين يتعاملون مع الخطاب باعتباره "أي حديث أو نص أو ترميز". لكن عندما نخوض في الوظائف السياسية والثقافية والاجتماعية التي ينجزها الخطاب، وبالنظر إلى مآلات الخطاب: التغير باتجاه التجديد أو الانحطاط بصفة عامة، لا يمكن التحدث عنه بصيغة: تجديد النصوص أو تجديد الترميز أو تجديد الحديث. فلابد من الاتجاه للتركيز على المحتوى الاجتماعي للخطاب حتى يكون للتعريف دلالاته من حيث الصيرورة والمآل.


وفي هذا الإطار أقدم اجتهادا يرى الخطاب – بصفة عامة - باعتباره مجموعة المفردات التواصلية (نص - صوت - صورة..إلخ) المعبرة عن الرسالة الاتصالية التي يتداولها الشركاء في أية منظومة اجتماعية محددة، والتي تتضمن الموقف العملي لصاحب الخطاب من كافة أبعاد الحياة الاجتماعية المشتركة بين أعضاء تلك المنظومة المحددة، استنادًا إلى مرجعية صاحب الخطاب وظرفه التاريخي وتصوره عن ذاته.


والخطاب الإسلامي في هذا الإطار هو ذلك الخطاب الذي يستند لمرجعية إسلامية من أصول دين الإسلام، القرآن والسنة، وأي من سائر الفروع الإسلامية الأخرى، سواء أكان منتج الخطاب جماعة إسلامية أم مؤسسة دعوية رسمية أو غير رسمية أو أفراد متفرقون جمعهم الاستناد للدين وأصوله كمرجعية لرؤاهم وأطروحاتهم؛ لإدارة الحيوات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمؤسساتية والثقافية التي يحيونها، أو للتعاطي مع دوائر الهويات القطرية أو الأممية أو دوائر الحركة الوظيفية التي يرتبطون بها ويتعاطون معها.


غير أننا - في إطار تعريف الخطاب الإسلامي - ينبغي أن نشير إلى أمر بالغ الأهمية يتمثل في أن استخدامنا لكلمة الخطاب هنا هو استخدام مجازي. فلا يوجد شئ اسمه الخطاب الإسلامي، بل توجد خطابات إسلامية متعددة بقدر تعدد الاجتهادات المختلفة في التعاطي مع تحديات الحيوات السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية التي تشهد حضور أي خطاب إسلامي. بل يميل بعض المراقبين إلى أن يعتبر أن للاجتهاد الواحد أكثر من خطاب، فيمكن أن نتحدث بالنسبة لحركة إسلامية واحدة عن خطاب فكري وخطاب سياسي وآخر تربوي.. إلخ. وبرغم أننا يمكن أن نعتبر وجهة النظر هذه إشارة لتعدد مستويات الخطاب الواحد إلا أن هناك حالات يكون فيها لحركة واحدة أكثر من خطاب، وبخاصة في حالة الحركات ذات الجناحين السري والعلني. ويصدق هذا على الحركات من المرجعيات المختلفة وليست المنتمية للمرجعية الإسلامية فقط.


والآن ننتقل إلى توضيح أكثر تفصيلا ودقة لأبعاد تعريف الخطاب كما قدمناه في السطور السابقة.



أبعاد الخطاب الإسلامي


بداية، لإنتاج الخطاب والتعرف على اتجاهه ومساره أو حتى تحليله وتطويره، سنجد أن العنصر الحاكم في هذه العمليات جميعها يتمثل في تصور منتج الخطاب عن ذاته. فهذا قد يؤثر تأثيرا جوهريا – فضلا عن احتمالات التأثير البنيوي - على الخطاب. فالجهة التي تنتج الخطاب - في إطار منظومتها الاجتماعية التي تحيا في سياقها - سيتغير خطابها في حالة إحساسها بالاغتراب عن هذه المنظومة عما لو كانت تشعر بالانتماء لها. وسيتغير الخطاب كثيرا لو كانت الجهة منتجة الخطاب ترى نفسها حزبا سياسيا عما لو كانت ترى نفسها طليعة تثوير وتغيير راديكالي، وهكذا. ويرتبط هيكل الخطاب وجزئياته ارتباطا وثيقا بالتغيرات التي تطرأ على تصور منتج الخطاب لعلاقته بالبيئة التي يحيا في إطارها.


والأمر البالغ الأهمية أيضا يتمثل في ضرورة الوقوف على المنظومة الاجتماعية المحددة التي يتم إنتاج الخطاب في إطارها. ومصدر الاهتمام بتلك المنظومة أن الخطاب الاجتماعي – أي خطاب اجتماعي - لا يتضمن مطلقات، بما في ذلك الخطاب الإسلامي. الخطاب يتضمن رؤية ومعالجة لتحد اجتماعي يواجه صاحب الخطاب في المنظومة التي يحيا في إطارها. وقد تكون هذه المنظومة دولة أو منظمة غير حكومية أو حالة أهلية أو منظمة سياسية.. إلخ. وانطلاقا من التأكيد على أهمية المنظومة الاجتماعية يمكن القول – مثلا - بأن الحياة في دولة غربية غير الحياة في دولة عربية، أو إفريقية.


فلكلٍ خصوصية ثقافية وسياسية واجتماعية تستدعي تمايز الخطاب الثقافي والسياسي المنتج في إطارها. وهنا، لا بد من استيعاب أن الخطاب الإسلامي المستخدم في دولة غربية لابد وأن يختلف عن الخطاب السياسي في أية دولة أخرى عربية أو إفريقية، بل إن هناك تمايزات في الخطاب قد تستدعيها بعض التفاوتات بين دول البيئة الثقافية الواحدة، ففي الدول الغربية نجد دلالة المذهب الديني بين الكاثوليكية والبروتستانتية تؤثر في صياغة الخطاب الإسلامي المستخدم في الدول التي تنتمي لهذا المذهب أو ذاك. ودلالة التاريخ السياسي بين دول قومية عضوية كألمانيا وإيطاليا وغيرها عن دول ذات تاريخ استيطاني متعدد الأعراق كالولايات المتحدة وأستراليا وكندا.


ويرتبط أيضًا بما سبق أن هذه المنظومة الاجتماعية قد تكون محددة بكونها منظمة غير حكومية أو منظمة سياسية أو منظمة أدبية أو منظمة اجتماعية مهنية أو نوعية.. إلخ. وهذا الأمر يؤثر على طبيعة الخطاب من حيث نطاقه الموضوعي. فخطاب أديب إسلامي في منظمة أدبية في بلد ما هو جزء من الخطاب الإسلامي العام في هذا البلد، لكنه جزء يتعلق بنطاق موضوعي محدد هو الأدب من حيث المرجعية الإسلامية لرؤية الأديب للفن، وهكذا نجد السياق الاجتماعي الذي يمثل بيئة "تشغيل" الخطاب يعد دالا رئيسيا في تشكيل ملامح الخطاب.


وثالثًا: في تعريف الخطاب لابد من الحديث عن الشركاء: أي شركاء منتج الخطاب في المنظومة الاجتماعية التي تشكل بيئة الخطاب. وهذا أمر بالغ الأهمية، لأن منتج الخطاب يعيش في بيئة يشاركه فيها آخرون، وهو مطالب كجزء فاعل من الكل أن يشارك في إدارة تعايش هذا الكل من خلال مجموعة من الرسائل الاتصالية التي تعبر عن وجهات نظره الأخلاقية أو الاجتماعية أو الوظيفية لإدارة هذا التعايش. وبحسب خطاب كل طرف يتحدد جزء من خطاب الطرف الآخر. فالمكون الثالث من التعريف: الشركاء، يفيدنا بأن الخطاب في طبيعته مكون من شقين؛ الأول تعبير عن ذاتية ومرجعية منتج الخطاب وقراءته للظرف التاريخي المحيط به، والثاني تعبير عن ردة الفعل حيال الخطاب الذي ينتجه الآخر أو الآخرون، والذين قد يفارقون منتج الخطاب من جهة الدين أو اللغة أو العرق أو الثقافة أو المصلحة.


وينبغي في هذا المقام الإشارة إلى أن أهمية الشركاء في تعريف الخطاب تتأتى من كونهم منخرطين في هذا الخطاب من عدة زوايا، فهم قد يكونوا موضوع هذا الخطاب إذا كان الخطاب يقوم بتعريفهم وتعريف موقعهم في المنظومة الاجتماعية، ومنظومة حقوقهم وواجباتهم، كما قد يكونوا موضوعا للخطاب في إطار سلبي الاتجاه، فأغلب الخطابات الإسلامية مثلا تعمد للتمييز بين (آخر مقبول) وهو الإنسان الغربي المستهدف بالدعوة للإسلام وبين (آخر مرفوض) وهو المشروع الغربي الذي يتسم في جانب كبير منه بالانتهازية والاستعمارية. كما أن الآخر قد يكون مستهلكًا لهذا الخطاب كأن يكون الخطاب ذا طبيعة إدارية أو فنية أدبية.


ومن جهة رابعة، فإن الموقف العملي لمنتج الخطاب يعد من أهم محتويات الخطاب الاجتماعي. فالخطاب الاجتماعي ليس تحركًا في فراغ، بل تحركا في سياق اجتماعي، وهو ما يعني احتكاكًا دائما بمشكلات اجتماعية وضغوط ومخاتلات خصوم وصور ذهنية مختلفة الدلالات تبثها وسائل الإعلام والدعاية على اختلاف أشكالها وصورها، وهو ما يخلق تحديات عملية مستمرة لا يمكن مجابهتها بخطاب مصمت أو خطاب فلسفي بنيوي ذاتي التوليد في مقولاته، بل ينبغي أن يكون منتج هذا الخطاب فكرة تدير هذه التحديات الاجتماعية، في إطار التغيير للأفضل. ومن هنا، فليس خطابا مقبولا ذلك الذي يدور في نطاق مثالي لا يتجاوز المرجعية أو الذاتية لصالح إدارة التفاعل الإيجابي مع الواقع. ولا يصير خطابا مقبولا ذلك الذي يتصل بالواقع ولا يستطيع قراءته، وإن استطاع فلا يستطيع إيجاد الحلول المناسبة له في ضوء مثالياته. وليس خطابا مقبولا ذلك الذي تؤدي مقولاته إلى صدام متكرر مع الواقع من دون الوقوف على سبيل عملي لتقديم استجابة توقف الصدام أو تطور علاقة الصدام نحو اتجاه أكثر إيجابية.


والمكون الخامس من مكونات الخطاب يتمثل في المرجعية الخاصة بالخطاب، فلا يوجد خطاب بلا مرجعية، ولا رؤية مثالية تمثل المعيار الذي يقاس نجاحه أو فشله مثاليا بالرجع إليه. إن محصلة دراسات علم اجتماع المعرفة تنتهي دوما لحتمية التحيز الذي يخلق علاقة ارتباطية وثيقة بين منتج الخطاب وبيئته النفسية التي تتشكل وفق عقده التاريخية وعواطفه ومنظوماته العقدية.


ولابد من زاوية سادسة أن يكون إنتاج الخطاب استنادا لقراءة واعية للظرف التاريخي المحيط بمنتج الخطاب، بما يجعل الخطاب استجابة ناجحة لبيئته.


أما المكون السابع فيتمثل في جماع تفاعل كل العناصر الخمسة السالف ذكرها، المتمثل في مجموعة المفردات التواصلية التي تتولي حمل الخطاب وتوصيله لمحل استقباله: شركاء المنظومة الاجتماعية. وهذه المفردات تتمثل في اللغة بكل تجلياتها المكتوبة والمسموعة والمرئية. فأي عمل فني درامي يحمل دوما إمارات وعلامات خطاب منتجه، بل إنه جزء من خطاب منتجه. فالصورة أو الرسم أو الصوت أو الكلمة المكتوبة كلها من مفردات تلك الرسالة الاتصالية التي يتكون الخطاب من مجموعها. وقد ذكرنا أنها مفردات تواصلية وليست لغوية لأنها مفردات تستوعب اللغة وتتجاوزها.


والجدير بالذكر هنا أن العلاقة بين هذه المكونات السبعة علاقة نُظُمية، أي أن التغير في أي من هذه المكونات السبعة سينتج تغيرا في بقية المتغيرات. ويتوقف حكم التغير التابع على درجة الجذرية في التغير المستقل أو الابتدائي.


وأخيرًا، يجدر بنا الالتفات إلى ضرورة وجود تماسك في بنية الخطاب الإسلامي نفسه، أي: إحكام العلاقة بين مكونات هذا الخطاب، سواء أكانت روافد نصية (كلمات) أم سمعية (تسجيلات وأحاديث) أم بصرية (مادة مصورة: تسجيلية أو درامية أو برنامجية). فإذا تم تكوين الخطاب الإسلامي بصورة اعتباطية، بلا دراسة وبلا فحص وبغير مراجعة أو نقد ذاتي، فهذا قد يقود إلى عدم تماسك الخطاب أو فقدانه الاتساق المنطقي، هذا بالطبع بالإضافة إلى ما يمكن أن يحدث من اضطراب في الخطاب من زاوية ما يطرحه من مواقف عملية ومدى فاعليتها، وبخاصة فيما يتعلق بحسن إدارة الشراكة مع سائر المكونات التي تشكل المنظومة الاجتماعية.


فالخطاب إذا هو ظاهرة اتصالية اجتماعية تتمثل في مجموعة المفردات التواصلية التي تعبر عن محتوى الرسالة الاتصالية التي يتداولها الشركاء في أية منظومة اجتماعية محددة، والتي تتضمن رؤية منتج الخطاب لذاته في إطار المنظومة التي يحيا بها، كما تتضمن الموقف العملي لمنتج الخطاب من كافة أبعاد الحياة، والتعايش المشترك في تلك المنظومة المحددة، استنادًا لمرجعية من يقوم بإنتاج هذا الخطاب وفي إطار إدراكه لخصائص الظرف التاريخي الذي يمثل سياق حركته.


وعليه، فإن الخطاب الإسلامي في هذا الإطار هو ذلك الخطاب الذي يستند لمرجعية إسلامية من أصول دين الإسلام، القرآن والسنة، وأي من سائر الفروع الإسلامية الأخرى، سواء أكان منتج الخطاب جماعة إسلامية أم مؤسسة دعوية رسمية أو غير رسمية أو أفراد متفرقون جمعهم الاستناد للدين وأصوله كمرجعية لرؤاهم وأطروحاتهم؛ لإدارة الحيوات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمؤسساتية والثقافية التي يحيونها، أو للتعاطي مع دوائر الهويات القطرية أو الأممية أو دوائر الحركة الوظيفية التي يرتبطون بها ويتعاطون معها.


والخطاب الإسلامي بهذه الصورة مفهوم أوسع من الفقه الإسلامي لأنه يتضمن الفكر الإسلامي ومفهوم الجماعة للتدين. كما أنه أوسع من البرنامج السياسي الإسلامي لأنه يتجاوز السياسة للتعاطي مع كل منظومة اجتماعية يتغير مستوى الخطاب فيها عن المستوى العام للخطاب العام. كما أنه أوسع من الاجتهاد كمنتج علمي، وأوسع من الفكر الإسلامي، وإن كان يستوعب هذه المكونات جميعها، لكنه يتجاوزها ليضم الأعمال الدرامية الإسلامية، والفن الإسلامي، والأدب الإسلامي، وكل أطروحة عملية تم إنتاجها في ضوء إعمال النظر في أصول الدين وفق الضوابط السليمة لهذا الإعمال. ومن نافلة القول تمييز الخطاب الإسلامي عن الشريعة الإسلامية باعتبارها جماع العقيدة والأخلاق والأحكام الشرعية، وعن التدين باعتباره طريقة التعبد كما يراها جماعة بشرية معينة، وعن الاجتهاد كعملية من عمليات إنتاج الخطاب تعتمد على منهجية علمية صارمة.



صيغة التجديد وتحدياته


مصطلح التجديد هو أحد المصطلحات التي تكثفت عملية استخدامها منذ منتصف القرن العشرين، بالرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوضح أهميته للأمة، ودورية اللجوء إليه، من خلال الحديث الذي رواه أبو داود بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الله يَبْعَثُ لهذِهِ الأمَّةِ عَلَى رأْسِ كلِّ مائةِ سنةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَها". ومع هذا الحديث كثر اللجوء لدلالة المصطلح: التجديد دون اسمه عبر عمليات تاريخية تمت تحت اسم الإحياء والإصلاح والاتباع والاجتهاد بل وحتى التقليد، وكانت هذه المسميات ذات صلة مباشرة بجوهر عملية التجديد التي كانت تتم في كل لحظة تاريخية على حده، حتى إننا وجدنا مصطلح التجديد يتسع للتفسير ونقيضه التاريخي، وكانت هذه الصلة المباشرة للمصطلحات المستخدمة وبين ما تقوم به من وظيفة سبب لتأخر اللجوء لاستخدام مصطلح التجديد. ولم أجد لجوءا لهذا الحديث النبوي السابق يتجاوز لجوء شراح الحديث طيلة عمر أمة الإسلام الأخيرة إلا منذ الثلث الأول من القرن العشرين على يد الشيخ أمين الخولي الذي كان أول من طرح مفهوم التجديد في الدين بمعنى الإصلاح والتغيير، ثم تلاه الشاعر الباكستاني محمد إقبال ثم الشيخ عبد المتعال الصعيدي، وتباينت الأسماء التي استخدمته كما تباينت دلالته مع هذه الأسماء.


والراجح أن سبب اللجوء لمصطلح التجديد مؤخرا واتساع نطاق استخدامه أمرين، أولهما أن المصطلحات التي أسلفنا الإشارة إليها صارت مفاهيم وباتت تحمل تاريخا مستقلا، وتحيزات خاصة، ودلالات ربما تصل في ضيقها لحد الوظيفية. غير أن الأمر الأهم من وجهة نظري، وهو الأمر الثاني الذي أدى للضغط على المصطلح منذ الثلث الأول من القرن العشرين، أن الفقهاء يحسون أن الضغط الواقع على الأمة وعدم التيقن من تحديد مكمن الوهن الظرفي يحتاج لتعميق المسؤولية حيال التجديد على نحو لا يصلح معه إلا استخدام هذا المفهوم النبوي نفسه. وهو برأيي نوع من استنفار علماء الأمة لكل من يستطيع أن يدلي بدلوه في هذا المجال.


وفي سياق العمل على إصلاح الواقع العربي والإسلامي المأزوم قامت محاولات لإعادة النظر في التركيبة الفكرية والاجتماعية والسياسية لهذا الواقع ومستوياتها المتعددة، ونشأت جماعات ومؤسسات وبرامج ومفكرين كلهم يدورون حول نفس الفكرة أي التجديد. غير أن قرنا من الزمان كاد أن ينصرم ولم نكد نبارح التحرك على مستوى المنهج، فقط وصلت بعض الحركات الإسلامية للحكم عبر اجتهادات تحاول جاهدة تنفيذها في إطار بيئة شبة رافضة لهذه الاجتهادات كما توصل كثير من المفكرين الإسلاميين لاجتهادات مهمة في الوقت الذي تواجههم فيه صعوبات تقبل الحركات الإسلامية لها فضلا عن تقبل البيئة العلمانية لها. وهذا ما دفعني لبناء هذا التعريف الإجرائي، لعله يكون طرحا يقيس عليه الباحثون عملية التجديد، أو حتى ليطوروا مفهوما قياسيا جديدا يتمكنوا من خلال مؤشراته من التعرف على مسار عملية التجديد ومحاولة التنبؤ باتجاهاتها المتعددة.


لقد سبق في هذه الورقة أن أوضحنا أركان الخطاب التي لابد من توفرها لنطلق على ما بين أيدينا خطابا، وهي:


أ - المفردات التواصلية ومجموعها.

ب - تصور منتج الخطاب عن ذاته.

جـ - حضور الآخر في الخطاب.
د - الموقف العملي لمنتج الخطاب.
هـ - مرجعية الخطاب.
و - قراءة الظرف التاريخي.
ز - المنظومة الاجتماعية.

كما أوضحنا ما يميز الخطاب عن غيره من بعض المفاهيم التي تتقاطع معه في الدلالة وتتباين معه في مجمل الحقل الدلالي. والسؤال الآن: كيف يجري التجديد على هذا الخطاب؟ ومتى نقدر أن خطابًا ما في أزمة، وأنه أضحى في حاجة للتجديد؟


والإجابة أنه طالما احتفظ الخطاب الإسلامي بنوع من التوازن بين هذه المكونات السبعة، فيمكن الاطمئنان إلى أن الخطاب الإسلامي في عافية. وبداية احتياج الخطاب للتجديد تتأتى من تنبيه المفكرين إلى وجود خلل في أحد هذه المكونات أو في العلاقة بينها. كيف؟ هذا ما سنجيب عليه في السطور التالية، من خلال مجموعة من الأمثلة التحليلية الواقعية التي تعكس أزمة أو مجموعة أزمات في الخطاب الإسلامي.


فمن ناحية، يمكننا أن نجد أول أزمات الخطاب الإسلامي من خلال الابتعاد عن المرجعية الإسلامية، والابتعاد عن تلمس مقاصد الشارع عز وجل الواردة في أصوله. فالخطاب الإسلامي في استقامة طالما استلهم أصوله حق الاستلهام، فلم يهمل أصلا، ولم يتجاوز أصلا، وطالما التزم بالمناهج السليمة في التعامل مع هذه الأصول. وبديل ذلك الالتزام يتمثل في التخبط، وفقدان التماسك المنطقي الذاتي، والابتعاد عن مقاصد الشارع إلى مقاصد بشرية قد تقصر عن إدراك عمق المصلحة البشرية كما أدركها الشرع. وعليه، فإن هذا المؤشر يفسر ظهور علم أصول الفقه كضابط لآليات التعامل مع نصوص الوحي. كما يفسر حركة مثل حركة إسلامية المعرفة التي ترى أن مشكلة الأمة تتمثل في أزمة في العقل والمنهج.


ومن ناحية ثانية، فإن الفشل في تقديم قراءة دقيقة للواقع والظرف التاريخي اللذان يعيشهما منتج يؤدي به إلى إنتاج خطاب غير قادر على مواجهة التحديات التي تشكل ليطرح معالجات لها، ويكون دالا في ظهور قراءة جديدة لهذا الظرف. ولعل كتاب "العالمية الإسلامية الثانية" لمحمد بلقاسم حاج حمد يعد أحد أبرز النماذج الإسلامية التي قدمت رؤية تجديدية تنطلق من رؤية كلية للظرف التاريخي. ونفس المثال ينطبق عن الطرح التجديدي الجزئي للدكتور سيف الدين عبد الفتاحإسماعيل حول أطروحة فتاوى الأمة، والحاجة إلى منظومة إفتائية جديدة وشاملة.


ومن ناحية ثالثة؛ فإن إسقاط خبرات مجتمعات أخرى على مجتمعاتنا تؤدي لمشكلات سياسية واجتماعية كبرى تواجه المسلمين في مجتمعاتهم. فلا بد من مراعاة خصوصية المنظومة الاجتماعية التي يحيا فيها المسلم منتج الخطاب. فالخطاب الإسلامي في دولة دينها الأساس الإسلامي سيختلف بالطبع عن الخطاب الإسلامي في دولة دينها الأساسي المسيحية. كما أن الخطاب الإسلامي في دولة فيها المسلمون أقلية سيختلف عن الخطاب الإسلامي في دولة فيها المسلمون أغلبية. فكل منظومة تفرض تحدياتها الخاصة على المتشاركين فيها. ولعل هذا المؤشر يفسر لنا ظهور جماعة الإخوان المسلمين التاريخية، كما يفسر الأطروحة التجديدية للبروفيسور طارق رمضان حول نظرية الاندماج الإسلامي في المجتمعات الغربية، وكذا يفسر أطروحة الأستاذ أنس التكريتي حول نظرية إدراج التوافق على المبادئ الإسلامية في بنية العقد الاجتماعي الغربي.


ومن ناحية رابعة، فإن عدم تضمين الخطاب الإسلامي مواقف عملية من المشكلات الاجتماعية يجعل هذا الخطاب يبدو خطابا مثاليا أو جامدًا غير مرن أو متزن أو مبدع. وهو ما اقتضى توجه حركات تجديد جزئية نحو الوجهة الحزبية، فظهرت لدينا الأطروحات التجديدية – بمعنى كلمة تجديد – لأحزاب مثل العدالة والتنمية التركي ومن قبلهم أحزاب السلامة والرفاه والسعادة والفضيلة في نفس البلد، وكذا العدالة والتنمية المغربي، ومشروع حزب الوسط المصري الذي لم ير النور حتى تاريخ كتابة هذه السطور، والحركة الدستورية الإسلامية في الكويت، وحزب جبهة العمل الإسلامي في الأردن، وحركة مجتمع السلم في الجزائر، وذلك على تفاوت في أهمية الأطروحات التجديدية لهذه الأحزاب.


ومن ناحية خامسة، نجد أن كثرة تصادم منتج الخطاب الإسلامي بشركاء المنظومة الاجتماعية التي يحيا في إطارها يعني وجود مشكلة كبرى في ممارساته أو في خطابه. ومن هنا، لابد من مراجعة الخطاب كجزء من عملية النقد الذاتي، فالخطاب والسلوك هما مصدر الخلافات الاجتماعية التي تشهدها علاقات القوى الإسلامية بغيرها من القوى. وربما يكون رفض مشروع الآخر مستهدفا ومحل إصرار في الخطاب، وهنا يجب التمييز بين شخص الآخر وإنسانيته ومشروع الآخر الذي قد يكون غير إنساني. هذا التمييز مهم لحمل الخطاب والعيش به وضمان العيش له. ولعل هذا المؤشر يفسر ظهور التجديد في مساحات جزئية من الفقه مثل تطوير التعامل مع مفهوم الجزية لصالح مفهوم المواطنة عبر تغيير المنظور الفقهي من الدولة الإمبراطورية باتجاه الدولة القومية، كما يفسر تنامي فقه الحوار وتطور الحالة الحوارية باتجاه تراكم أدبيات حوارية في مساحات الحوار الإسلامي – العلماني والحوار الإسلامي – المسيحي والحوار السني الشيعي، فضلا عن المشروع الأضخم: مشروع حوار الحضارات. والملاحظ أن هذه الحالة الحوارية تعم الأمة جميعا، حيث تتبلور في الدول الأسيوية مساحات للحوار الإسلامي – البوذي والحوار الإسلامي الكونفوشيوسي.


ومن زاوية سادسة، نجد أن تصور منتج الخطاب عن ذاته قد يحتاج لتطوير أيضا. فالحركات الإسلامية التي تعيش بمنطق حركة المقاومة التي كانت تواجه الاحتلال قبل عشرات السنين لا بد من أن تعمل على تطوير رؤيتها لنفسها، فهذا ما سيؤدي لتطوير خطابها وتجويد أدائها ومن ذلك اتجاهات تجديد خطاب جماعة الإخوان المسلمين بعد زوال الاحتلال البريطاني. كما أن الحركة التي تتصور أنها بديل مطلق لغيرها من الأفكار سيقودها تصورها عن نفسها إلى الاصطدام بالوجود الحقيقي والمتعين والمؤسسي لغيرها من الأفكار والحركات، مما يعني مزيد صدام سياسي واجتماعي في ظرف تاريخي لا يسمح بتعامل منصف مع أطراف مثل هذا الصدام، ولا يكون البديل إلا بتغيير ملامح الخطاب الذي تحمله الحركة أو تغيير بنيته، وذلك انطلاقا من إعادة تقييم رؤيتها لذاتها. ولابد في ختام طرح كهذا من الإشارة إلى أن أي خطاب، تصالحيا كان أو راديكاليا، لابد له من أرضية اجتماعية ينطلق منها، ولابد له من الحفاظ عليها. هذه الأرضية تمثل أنماط التحالفات الكلية أو الجزئية التي تعينه على تحقيق ذاته. ويشار إلى ما تحدث عنه الدكتور عبد الوهاب المسيري من أطياف الخطاب الإسلامي الجديد كمثال حي على التجديد في هذه المساحة.


تلك هي أهم المداخل المنضبطة منهجيا لتطوير الخطاب الإسلامي وتجديده، في إطار السعي لتفادي الارتجال والعفوية التي ضرت الحركة في مسارها أكثر مما نفعت.



محذوران هامان


لكن عملية تجديد الخطاب الإسلامي يجب أن يتم في إطارها الانتباه لأمرين بالغي الأهمية، قد يؤدي تجاوزهما إلى القدح في العلاقة بين الخطاب الإسلامي ومرجعيته، وهذان الأمران هما:



أولا: هناك حق أصيل للمسلمين في الاختلاف الفكري، ولا يجدر بنا الانسياق وراء الضغوط غير المسلمة لدفع الخطاب الإسلامي للتناقض مع أصول الشريعة، ولا يقدح في حقنا في الاختلاف أن نتناول الأجندة الغربية لنقدم في إطارها إسهامنا الأصيل فهذا بالرغم من كونه حلا منقوصًا، إلا أنه أفضل المطروح في إطار هيمنة علاقة قوة غير متوازنة على عملية التدافع الحضاري لا تسمح بإنجاز إسهامات الخطاب الإسلامي وفق أولوياته الذاتية.


وثانيًا: يجدر بأصحاب الخطابات الإسلامية ألا يضيقوا بوجود أكثر من خطاب إسلامي، بل الأجدر بهم أن يتحاوروا مع الأطياف المختلفة للخطاب الإسلامي، لا لتوحيد الخطابات، بل لوضع ضوابط لما يمكن تسميته بالخطاب الإسلامي، لئلا ينتحل هذه الصفة من لا يتمتع بالأهلية الموضوعية للوقوع ضمن الحقل الدلالي لمفهوم الخطاب الإسلامي.

تعليقات