النخب العربية وتساؤلات الحوار لبناء الديمقراطية


في إطار السعي نحو تعزيز الحالة الديمقراطية في البيئة العربية قدم المفكر العربي البارز البروفيسور برهان غليون في أطروحته "هل تشكل الحركات الإسلامية عائقاً أمام التحولات الديمقراطية" عدة تساؤلات حول مدى احتمال وجود خطر إسلامي حقيقي يهدد أي تحول في اتجاه الديمقراطية، واحتمالات أن يكون الانتقال نحو نظام ديمقراطي في أي بلد عربي بمثابة انتقال محتم نحو نظام إسلامي يقفل باب الديمقراطية، وتساءل عما إذا كان من الممكن تصور تحول نحو الديمقراطية لا يتبعه تسلط للقوى الإسلامية المتطرفة على الحكم؛ وبالتالي لا يترجم بالضرورة إلى إهدار حقوق وحريات الأفراد والعودة المنتصرة لنظم استبداد دينية أكثر قسوة من نظم الاستبداد القائمة شبه العلمانية.

وفي السياق نفسه أكد البروفيسور برهان غليون على أنه لا يمكن الهروب أيضا من طرح السؤالين الذين تطرحهما الدول الصناعية، وهما: هل يمكن إنكار أن العنف الاستثنائي الذي أظهرته بعض الحركات الإسلامية المتطرفة؛ ولا تزال تظهره بشدة، تجاه الغرب بشكل خاص هو الذي يدفع هذه الدول إلى تبني النظم المستبدة العربية القائمة، والتمسك بمبدأ الوصاية على المنطقة التي تشكل بؤرة مصالح إستراتيجية كبيرة ومعترف بها؟ ثم أليس هو المسؤول عن تراجع الديمقراطية في الولايات المتحدة نفسها عندما اضطر الإدارة الأميركية إلى تعزيز الإجراءات الأمنية وتقييد الحريات الفردية وتكريس التمييز الإثني داخل الدولة الأكثر قبولا بتقاليد التعددية الإثنية والدينية والفكرية من بين جميع الدول الصناعية؟

والواقع أننا تمسكنا بالبدء من أسئلة البروفيسور برهان غليون، بصرف النظر عن رؤيته التي نثمنها وإن كنا لا نتفق معها إلى حد كبير. وهذا التمسك مرده إلى أمرين: أولهما أن الدكتور برهان غليون ممثل نموذجي لتيار الإصلاح السياسي العربي على الأرضية العلمانية ذات النزوع الوطني غير الفصائلي، وثانيهما أن تساؤلاته عكست جوهر مختلف التساؤلات التي تحمل القلق حيال العلاقة بين الإسلاميين والديمقراطية.


الإسلاميون والديمقراطية.. القلق المشروع والمذموم

في مقال سابق كنت قد بحثت أطروحة احتمال انقلاب الإسلاميين على الديمقراطية. وفي هذا الإطار أوضحت أن طرح الأطياف العلمانية لهذا السؤال طرحا سلبيا على أصعدة عدة، ويمنح تبريرا مجانيا للاستبداد في عالمنا العربي، وذلك على خلفية أحد الأسئلة التي طرحها البروفيسور برهان غليون، والتي طرحتها في مستهل المقال. وأشرت في معالجتي للموضوع إلى أن البديل هو مشروع قومي لتقوية العمل المدني الجماعي على نحو يعيق قيام أية سلطة - أيا كان فكرها – بالارتداد إلى الحالة التسلطية الاستبدادية. وهذه الفكرة طرحها - بروئ متعددة وزوايا مختلفة وخصائص متمايزة - مجموعة من المفكرين العرب الأفذاذ أبرزهم الدكتور محمد عابد الجابري في أطروحته المتميزة عن "الكتلة التاريخية"، ذلك المفهوم الذي بناه المفكر الشيوعي الإيطالي أنطونيو جرامشي في النصف الأول من القرن العشرين، وأسهم الدكتور الجابري في تطوير المفهوم وتبيئته، على نحو لا يتسع المقام لسرده.

هذا المعيار لم يكن المعيار الوحيد بسبيل تجاوز هذا السؤال المأزوم والمغلوط في آن. فهناك معايير أخرى. نتناولها بالفحص بقدر ما تسمح به مساحة المعالجة، وبقدر ما تتعدد الكتابات في هذا الصدد.

والواقع أن هذا السؤال المغلوط والملغوم يضعنا أمام تخوفات المجتمع المدني العربي من قوة الإسلاميين ومآلاتها؛ تلك التخوفات التي نجمت عن التعاطي مع بعض أطياف من خطابات إسلامية راديكالية وجدت نفسها تاريخيا في محل قاطرة الحركة الإسلامية، وأبرزها خطاب جبهة الإنقاذ إبان الانتخابات الجزائرية المشؤومة عام 1992، كما تداولتها ألسنة بعض قادة حركات إسلامية معروفة التوجهات، لكن ما لا يجدر بنا نسيانه أن تصور النخب العربية ظل متكلسا حتى وقت قريب حول هذه التصريحات رافضة إدخال تعديلات حقيقية عليها من قبيل تعدد الإسلاميين وتعدد الخطابات الإسلامية.
لكن من الحري بنا أيضا أن نضع أنفسنا، وأن نضع خطابنا الإصلاحي الوطني/القومي أمام اعتبارين لابد من تمحيصهما، بصرف النظر عن مناهج المعالجة التي نستعملها في إجابة تساؤلات البروفيسور غليون أو ما توصل إليه من نتائج فعلية. وهذان الاعتباران يتمثلان فيما يلي:

الاعتبار الأول: ليست كل الخبرات الإسلامية في السلطة خبرات استبدادية، أو خبرات يمثل حضورها علاقة عكسية مع حضور الديمقراطية، بل الغالبية منها خبرات ديمقراطية، ولن تكون خبرات تركيا وإيران وفلسطين وبعض الخبرات الديمقراطية النيابية في عدد من الدول العربية آخر هذه الخبرات، برغم أن البيئة المحيطة بهذه الخبرات تدبر المكائد وتشيع الدسائس آملة في إفساد هذه التجارب، ولعل جهود حركة فتح الفلسطينية في علاقتها بحكومة حماس أشد النماذج توضيحا لمحاولات إفشال النموذج. ومع حجة النفي تلك تثور حجة إثبات لعكس مقولة البروفيسور غليون.

فباستثناء الخبرة اللبنانية التي يصونها اتفاق الطائف والترويكا المنبثقة عنه، وكذا الخبرة الديمقراطية النيابية الحيية في الكويت والأردن برغم ما يعتور هاتين الخبرتين من بعض انتهاكات، باستثناء هذه الخبرات فإن الوضع الاستبدادي كله علمانيا.

وإن كان البروفيسور غليون قد أشار إلى أن الاستبداد العلماني سيكون أفضل من الاستبداد الإسلامي؛ فإني أرفض هذا الطرح. فالخبرة التاريخية تشير إلى أن بعض المجتمعات تحملت قمع الحريات المبدئي ونجحت في تجاوزه أو على الأقل تقدمت على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي بدءا من الخبرة السوفيتية وانتهاءا بالخبرتين الإيرانية والفنزويلية، بينما الاستبداد العلماني لم يمنح المجتمعات العربية والإسلامية إلا الفساد الذي نعرف عاقبته التي نحياها اليوم.

غير أن مقولتي الأخيرة هذه هي فقط لتبيان رفضي حجة البروفيسور غليون استنادا لدلائل تاريخية، ولا تعني - بأي حال – قبولي أي عصف إسلامي بالحريات - إن حدث، هذا على اعتبار أني أتحدث في فضاء إسلامي.

الاعتبار الثاني: لماذا هذا الإصرار العربي الفج والممقوت والذميم للنخب العربية والإسلامية على جعل الخبرة الديمقراطية رهن فقط بإرادات الساسة إبان إدارتهم للعملية السياسية من موقع السلطة؟ ثم ألا يلاحظ المفكرون العرب والمسلمين أن كل الخبرات التي تشهد ممارسة ديمقراطية مستقرة أو قادرة على الاستقرار تبين بجلاء أن هذا الاستقرار الحادث أو المحتمل مرده إلى استناد الممارسة الديمقراطية لخلفية صلبة (البنية الاجتماعية والصيغة الأيديولوجية الحاكمة في إيران – الوضع القطري والإقليمي والدولي في فلسطين – المؤسسة العسكرية ذات العقيدة الوطنية الديمقراطية في تركيا.. إلخ)؟ ثم لمصلحة من أن يكتب الدكتور محمد عابد الجابري – مع عميق تقديري لشخصه وعقله وأطروحاته الإصلاحية – عن تلك العوائق البنيوية أمام التحول الديمقراطي؟ ألا يقود هذا لتصور استحالة التغيير أو على الأقل تصور ضرورة العنف بسبيل التغيير، حيث العنف والراديكالية هما السبيلان لكسر الحلقة المفرغة؟ ألا يعي المفكرون العرب والمسلمين أن علينا بناء مشروعات قومية سياسية حقيقية نبني عليها توافقا صلبا كما عبر عنه الجابري في رؤيته عن الكتلة التاريخية؟ ألا يعلم مفكرونا أن سبب مصيبة هذه الأمة يتمثل في عدم استعداد أفرادها تحمل التكلفة الاجتماعية لإصلاح يقضي على الفساد وتدني الحياة العامة والخاصة في عالمنا العربي والإسلامي؟ أليست هذه الأسئلة أولى بالطرح؟

خلاصة هذين الاعتبارين أننا – كأمة عربية أو كأمة إسلامية – بحاجة لتوفير الشروط الأساسية لبناء الديمقراطية، بدءا من بناء التوافق حولها، وعدم التهويل في طرح أسئلة العوائق أمام بناء هذا التوافق على نحو يؤدي لإقصاء القوى القادرة على إحداث تراكم بسبيل بناء الديمقراطية المنشودة، كما أننا بحاجة أكثر وأثمن وأهم وأقيم إلى إخراج المارد الجماهيري من عزلته (الاختيارية أو الإجبارية)، وتحميله بقيم الجماعية والحرية والاستعداد لتحمل الثمن الاجتماعي للتحول الديمقراطي، ثم تعبئته من خلال حركة اجتماعية خلف الهدف الديمقراطي، سواء أكانت هذه الحركة جبهة وطنية أم كتلة تاريخية أم تحمل أي مسمى آخر، ولا مشاحة في التسميات كما يقول أستاذنا الجابري.


مسؤولية الإسلاميين.. والخطاب الديمقراطي المتهم

القلق العلماني من مآل العلاقة بين الإسلاميين والديمقراطية لا يخلو من وجاهة عميقة ومحترمة ومعتبرة، برغم أننا قلنا إن الاستفسار عن هذه العلاقة قد يصل إلى درجة الرهاب الذي يعبر عن مرض اجتماعي. وكما قمنا برصد حد المرض عند طرح الاستفسار عن هذه العلاقة؛ علينا أن نبين حد الوجاهة والاعتبار، وإلا نكون بصدد طرح غير متوازن وغير مستقيم.

أولا، لابد من الإشارة لوجود تعددية حقيقية في طرح الإسلاميين حيال الديمقراطية. لكن البارز داخل هذه التعددية وجود ثلاثة تيارات يتوفر لديهما طرح رافض للتعاطي مع الفكرة الديمقراطية، هذه التيارات يمكن التعرف على ملامحها من خلال المشهد التالي:

التيار الأول، وهو تيار راديكالي عقائدي يرى في الديمقراطية حكما بغير ما أنزل الله، ومقولتهم في هذا الصدد أن الديمقراطية تجعل الحاكمية في المجتمع للشعب في الوقت الذي يرى فيه أنصار هذا التيار أن الإسلام وعقيدته لا يجعلان الحاكمية إلا لله. ولعل أبرز من كتب في هذا التيار الدكتور محمود الخالدي - أحد مفكري حزب التحرير، في كتابه "الديمقراطية الغربية في ضوء الشريعة الإسلامية"، والشيخ عبد الغني الرحال ذو التوجه السلفي، في كتابه "الإسلاميون وسراب الديمقراطية".

أما التيار الثاني، فهو راديكالي سياسي يقوم في رفضه للديمقراطية على ضرورة الاعتزاز بالقيم الإسلامية والمنهج الإسلامي الذي يعتبر أنموذج حياة كاملة، ويرى هذا الاتجاه - في هذا الصدد - أن ثمة بديل إسلامي مطروح للديمقراطية، ألا وهو مفهوم الشورى، وتراثهم في التدليل على محتوى هذا المفهوم له باع طويل. ومن بين الكتابات التي عالجت هذا الموضوع كتابات الشيخ عدنان النحوي الذي سبق ووضع كتابا بعنوان: "الشورى لا الديمقراطية". والمشكل في هذا الاتجاه أن المفكرين المحسوبين على هذا التيار بأطيافه المتعددة لم تنجح في تحويل مفهوم الشورى من قيمة سياسية إلى ظاهرة مؤسسية تفوق الإنجاز القيمي والمؤسسي لقية الديمقراطية، بما في ذلك محاولات أستاذنا الكبير الدكتور توفيق الشاوي، وبخاصة في "فقه الشورى والاستشارة" أو في "الشورى أعلى مراتب الديمقراطية".

وهناك تيار ثالث، ربما لا يحمل مشاعر عداء للديمقراطية؛ لكنه يرفضها رفضا منهجيا، ومرد هذا الرفض المنهجي إلى الاقتراب المنهجي الذي نظر به إلى الظاهرة، حيث تعاطى معها باقتراب تاريخي اجتماعي، وهذا الاقتراب كان من نتيجته النظر للديمقراطية باعتبارها نتاج تاريخي لبيئة غير إسلامية وإطار فلسفي غير إسلامي، وهذا صحيح إلى حد كبير. وكان من المفترض بهذا الاتجاه أن يبني طرحا سياسيا تجديديا منطلقا من أصول الإسلام وتراثه من ناحية ومن تاريخ الأمة الإسلامية وتطورها الذاتي من ناحية ثانية، لكنه لسبب أو لآخر لم يفعل بالرغم من أن كل المؤشرات الصادرة عن الأمة تشير إلى الحاجة الماسة والملحة للتجديد والإصلاح.

وفي الاتجاه المقابل لتيارات الرفض؛ يمكن رصد تيارات أخرى تعاطت مع الديمقراطية بما ينفي عنها صفة الرفض لها. وقد أدت هذه التيارات لبروز تسميات تحاول استيعاب هذه القيمة والخبرات المرتبطة بها في بيئتنا العربية والإسلامية. وفي هذا الإطار وجدنا الأستاذ محمد إبراهيم مبروك يتحدث عن "الديمقراطية الإسلامية"، كما وجدنا أستاذنا الدكتور توفيق الشاوي يتحدث عن "الشوراقراطية" كمصطلح منحوت من لفظين: الشورى والديمقراطية، وهو نفس المصطلح الذي وظفته حركة مجتمع السلم في الجزائر ضمن رؤيتها للديمقراطية. كما رصدنا أيضا أفكار الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي عن الديمقراطية المؤمنة، وكذا كتابات الدكتور توفيق الواعي حول "أسلمة الديمقراطية".

غير أن هذه التيارات التي تحاول تقديم تعاط ثقافي ناضج مع مفهوم مستورد ومعرب ويحمل خلفيته الثقافية في تعريبه، هذه التيارات لم تمنع من تعامل الحركات الإسلامية الوسطية مع مفهوم الديمقراطية بعدة أساليب. فبعض قادة الحركات الإسلامية يعتبر الديمقراطية معطى تاريخي فعال في المنطقة، كما أنه لا مناص من التعامل معه. غير أن الأستاذ عبد الرحمن الحاج يرى أن خطاب الضرورة هذا قد يمثل انتكاساً عما بدأه الخطاب الإسلامي الإصلاحي مطلع القرن الماضي الذي كان يرى في الديمقراطية نوعاً من الانسجام العميق مع الذات، بحيث تبدو الديمقراطية الحديثة وكأنها نوع من إعادة اكتشاف الذات العربية والإسلامية نفسها، لا شيئاً غريباً عنها. لكن فقه الضرورة لم يكن وحده صاحب الأطروحة الرضائية حيال الديمقراطية، فضمن هذا الاتجاه السياسي العملي جاء التقويم المتوازن للديمقراطية على لسان فضيلة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله يعالج هذه المسألة في كتابه "دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين"، الذي اعتبر الديمقراطية بمثابة إجراءات لتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، مؤكدا أنها يمكن أن تنجح في أوطاننا. ففتح بذلك أمام المسلمين باب قبول هذه القيمة.

وكشأن الفتاوى التي تصدر عن كثير من علمائنا، وفيما يتعلق بالديمقراطية على نحو ما عرضنا، وجدنا بديلا واحدا موصوفا بالحل والحرمة في آن. وهنا يثور التساؤل: هل هذا الاختلاف في الفتوى مما اعتبره الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة أم أنه ليس من هذا النوع من الخلاف؟ وهل يحتمل حكم الشرع أن يكون الفعل الواحد حراما وحلالا في آن واحد، فاتحا بذلك الباب أمام حديث البعض عن اضطراب الحكم الشرعي؟ ولماذا أصر بعض مفكرينا على ضرورة التمييز بين خلاف الضد وخلاف التعدد؟

هذه التساؤلات تقودنا إلى أمر غاية في الأهمية. فالحكم الشرعي لا يمكن أن يكون بالحل والحرمة حيال فعل واحد، وإن تصادف القول بخلاف تضاد في الحكم الشرعي؛ وجب أن يعالج هذا الوضع. فما موقف الشرع الحقيقي إذا من الديمقراطية؟ برأيي أن هذا السؤال كان يحتاج لوقفة جادة، لأن عدم الرد عليه يفتح الباب أمام أسئلة التي جسدها طرح البروفيسور برهان غليون.

وفي رأيي الذي بنيته منهجيا وعمليا، وأقتنع به بالغ الاقتناع، أن الطرح الإسلامي أشد انسجاما مع القيم الديمقراطية منه مع القيم الأوتوقراطية والثيوقراطية، وهو يعلي الديمقراطية على كثير من خيارات إدارة الشأن العام. غير أن هذا الإعلاء والتثمين رهن بالبت والفصل بين الديمقراطية وأصلها الفلسفي الليبرالي.

نحن نتعامل مع الديمقراطية في هذا الصدد باعتبارها نموذج إدارة مكون من نسق من القيم السياسية والاجتماعية المقبولة إنسانيا، والتي لا تختلف عليها الثقافات بحيث ترفضها في إطار تقدير خصوصياتها. وما نقوله هنا ليس بدعا. فقد سبقنا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لاستلهام نظم لإدارة الفارسية. كما أن البروفيسور برهان غليون نفسه قد قدم سجالات عديدة في إطار رؤيته لضرورة عدم الخلط بين الديمقراطية وفلسفتها الليبرالية.

وهنا أتوجه للإسلاميين المحتفين بالديمقراطية بعدة تساؤلات:

فهل تمكن الإسلاميون من مواجهة اختلاف الضد في الموقف من الديمقراطية بما يليق بوزن القضية وقيمتها بالنسبة لمجتمعاتنا؟ والإجابة هي: لا.

وهل باشر الإسلاميون المحتفون بالديمقراطية سجالات ومناظرات مع الإسلاميين الرافضين للديمقراطية، بما يوفر أدبيات قوية تعالج هذا الموضوع، وبما يخلق مناخا يسهل تقبل الفكرة وتعميقها لدى العامة والخاصة من المسلمين، وبما يوفر إقناع المرتابين في علاقة الإسلاميين بالديمقراطية؟ والإجابة هي: لا.

وهل باشر الإسلاميون المحتفون بالديمقراطية حملات إعلامية وتربوية ترسخ اعتناق أتباعها للطرح الديمقراطي؟ والإجابة هي: لا.

وهل كرس الإسلاميون المحتفون بالديمقراطية جهود فقهائهم لفحص الديمقراطية في ضوء نظريات الفقه الثرية والقوية كنظريات المقاصد والمصالح والمآل والذرائع، على نحو يرسخها ضمن الفقه السياسي الإسلامي المعاصر بدلا من الاحتماء بنظرية الضرورة التي لا يخلو الاحتماء بها من اتهام؟ والإجابة هي: لا.

وهل قام الإسلاميون بتشريح التراث الفقهي والتربوي السياسي للأمة انطلاقا من المحتوى الموافق للشرع الذي تحمله الظاهرة الديمقراطية؟ والإجابة هي: لا.

لكن الأهم من تقديم أجوبة إيجابية على كل هذه التساؤلات يتمثل في مدى لياقة نمط تفاعل الإسلاميين مع الجماهير، وما إذا هذا النمط لائق لإعداد الجماهير للدور المطلوب منها أم لا. أنا أظن أن هذا السؤال بنيوي ومحوري في تقييم علاقة الإسلاميين بالديمقراطية.

هذه الأسئلة كلها تشير إلى أن تراث الإسلاميين لا يخلو من خلل، ولا ينجو من اللوم، ولا يقوى على مواجهة السؤال الذي طرحه البروفيسور برهان غليون مواجهة حقيقية. فهل تكون ثمة بداية؟ أرجو هذا.!

تعليقات