الدعوة والسياسة والمربع رقم صفر


عندما بدأت انتخابات عام 2005 في مصر، تعالت أصوات المتساجلين حول الدعوة والسياسة، إضافة للمتساجلين حول الدين والسياسة، محاولين توعية الدعاة المنشغلين بالعمل العام في مصر بضرورة فصل العمل العام عن الدين من جهة أو عن الدعوة من جهة ثانية. وتختلف مواقف الطرفين الرافضين للمزج بين الدعوة أو الدين من ناحية وبين السياسة من ناحية أخرى، حيث إن الرافضين التضافر بين الدعوة والسياسة يؤمنون بالعلاقة الوثيقة بين الدين والسياسة؛ بل وكل مجالات الحياة، ولكنهم يريدون أن ينأوا بالعائدين إلى الله عن تلك العواصف التي يواجهها الإسلاميون في المعترك السياسي.


أما رافضو كل علاقة بين الدين والدولة فهم أطراف سياسية وفكرية علمانية صعب عليها مواجهة خصم سياسي إسلامي يتسم طرحه بالتواصل والتوافق والتضافر مع ثقافة هذا الشعب، وهو ما أدى بالطرف الإسلامي للاقتراب بشدة من قلب المواطن المصري وثقافته ونزوعه نحو الطهر ورغبته في التخلص من الفساد.



الدعوة والسياسة.. الرباط الأوثق


في السطور القليلة القادمة سأركز على الحالة المصرية، لأني لست من أنصار أن أصوغ مبادئ في فقه الحركة تدعي لنفسها القدرة على إصلاح منهج الحركات الإسلامية عبر اختلاف الحدود والخبرات وطبائع التجارب.


كما أني سأتعامل مع رباط الدعوة بالسياسة في إطار الحوار مع الفريق المنادي بفصل الدعوة عن السياسة لا مع الفريق المنادي بفصل الديني عن السياسي. فالحوار مع الفريق الثاني يعني أننا لم نبارح المربع رقم صفر في مناقشة فعالية التيار الإسلامي في العودة بالسياسة إلى نمط ممارسة يستحضر وجداننا الشعبي، فيحرك ويلهم الجماهير التي نجحت ممارسات الحكومات المتعاقبة في مصر في دفعها نحو السلبية والانطواء على جراح الفساد والاستبداد وافتقار القرار السياسي لتحري المصالح الحقيقية للعباد. كما أني - بصراحة شديدة – ومع احترامي لرأي الآخر العلماني – أرفض أن يجبرني أحد كأحد شخوص الحالة الإسلامية العامة على الدوران السرمدي في الحلقة المفرغة للمربع رقم صفر الذي انطلقنا منه في منتصف السبعينات ولا يزالون يريدون أن يناقشونه فيه بعد مرور أكثر من عقدين من الزمان.


أما الفريق الذي تخيرنا محاورته فهو فريق نسعى لطرح وجهة نظرنا أمامه بكل حججنا ليطمئن إلى أن تضافر الدعوة والسياسة هو أمر ليس لصالح الإسلاميين، بل لصالح الأمة بما فيها الساسة من إسلاميين وعلمانيين على حد سواء.


والطرح الذي أقدمه في السطور القليلة القادمة لا يمكن بحال اعتباره جديدا، لكن المراجعة تفيد في طرح القضية بمنظورات جديدة، وتقييم أحدث في إطار الخبرة الأكثر حداثة وجدة. ألا وهي انتخابات 2005. ولكن لنبدأ بالرباط الأوثق بين الدعوة والسياسة في مصر.


فالناظر للبيئة المصرية يجد أن حال ثقافة المشاركة يمكن ترسيم ملامحه على النحو التالي:


أ – خبرة تاريخية تشير إلى قوة المشاركة على الصعيدين: صعيد المقاومة وصعيد السياسة في فترة ما قبل ثورة يوليو، مع اتجاه لضعف حاد وتآكل مطرد في المشاركة بعد الثورة مع اتجاه الحكومة المصرية لقمع الرؤى والتصورات والاجتهادات المخالفة، ثم مع الديمقراطية النخبوية في العهد الساداتي، ثم مع خبرة الديمقراطية ضمن الإطار المسموح به في الفترة الحالية. ولا يقدح في هذا الطرح حالة التعبئة التي أنجزتها الحكومات الثلاث في مصر بعد الثورة، فدوما تتسم النظم الشمولية بقدرة تعبوية عالية على خلفية الترغيب والترهيب.


ب – يمكن القول بأن المشروعات الحكومية لبناء الوطن بعد الاستقلال تمثلت في غياب البعد الثقافي، أو حضور ثقافة غريبة عن الشعب المصري، وهو ما أدى لهروب المصريين من ثقافة الفترة الناصرية باتجاه شخص الرئيس ومشروعه الاقتصادي، وهروبهم من الفترة ما بعد الناصرية باتجاه الابتعاد عن السياسة والانكفاء على المشروع الاقتصادي الخاص، بعدما اهتزت الثقة في العمل العام. ولعل أبرز ما يدعم هذا الرفض الثقافي ما نشهده من التحاق واسع بالحالة الإسلامية مقابل ندرة الالتحاق بالأحزاب الأخرى.


جـ - عزز من ضعف ثقافة المشاركة ذلك الاستهتار الذي ميز تعامل الحكومة المصرية مع إرادة الناخبين طيلة نصف قرن من الزمان، مما كرس إما السلبية أو التعامل الانتهازي مع المرشحين، واستغلال صراعاتهم للحصول على مكاسب ضيقة.


د – كما أسهم في إضعاف ثقافة المشاركة أيضا أن عملية التجنيد السياسي التي تبدأ من الجامعات بالنسبة للمتعلمين أو من المقاهي بالنسبة لغير المتعلمين يشب فيها الفرخ السياسي على ثقافة الالتحاق بالحزب الحاكم أو الابتعاد عن السياسة أو مواجهة بدائل الإقصاء المتعددة الأطياف والدرجات.


هـ - وتضافر مع ما سبق حالة من الوهن الاقتصادي العام بسبب أخطاء الحكومات المصرية المتعاقبة أسهمت في حدوث حالة من الفقر الذي ساعد في الانتهاء عن السياسة المحفوفة بالمخاطر من جهة، أو التعامل الانتهازي الموسمي مع الظروف الانتخابية من جهة ثانية.


هذه الحالة من وهن المشاركة لم تفلح معها أطياف المشروعات السياسية المتباينة. والأدهى من ذلك والأنكى أن الناس بدأت في التأقلم والتكيف مع نمط المشاركة الانتهازية، وهو ما يعني كارثة تطبق على هذا الوطن؛ كارثة بكل المقاييس. فالسلطة بقدر ما فيها من الفساد تتجه نحو التوريث. والنخب السياسية تتجه للتطابق مع النخب الاقتصادية التي تركز على المصالح الخاصة في الغالب، وهو ما يؤذن باستقطاب اقتصادي – اجتماعي حاد قد يفضي إلى خراب. والمشكلة أن شريحة واسعة من المثقفين الذين يدركون هذا المستقبل المرير اختاروا الالتحاق بالحزب الحاكم لضمان المستقبل، ولم يبالوا بالانحطاط لدرك قبول تزييف الانتخابات في سبيل الحفاظ على حد أدنى من ضمان البقاء في نفس الدرجة الاجتماعية.


في هذا الإطار، ومع ضعف قدرة الأطروحات السياسية المختلفة على تغيير هذه الحالة، يبرز دور الإسلاميين الذي قد يكون مندوبا في ذاته، لكننا نندبه هنا لا لشئ إلا لقدرته على أن يتجاوز بالمواطن المصري حالة السلبية من خلال قدراته التعبوية العالية، سواء استندت هذه القدرات التعبوية للنشاط الخدمي الذي يقدمه هذا التيار أو لتوظيفهم الحس الديني في تعبئة الناس وراء الحالة الانتخابية.



القرائن الظرفية والدعوة السياسية


القرائن الظرفية، بالاستناد لخبرة 2005 تشير لذلك الصراع الحاد بين إرادة المشاركة وإرادة القهر، تشير لنجاح خبرة هذا التيار على عدة أصعدة.


فلو أخذنا نموذج تهافت الدكتور مصطفى الفقي على مقعد محمد جمال حشمت في محافظة البحيرة، سنجد تجلي صراع ثقافتي المشاركة والقهر متمثلا في قدرة نموذج حشمت على تقديم سيناريو لتحدي إرادة القهر عن طريق تعبئة ستة أضعاف أنصار الدكتور مصطفى الفقي. ولن نخوض في نتيجة المواجهة، فالأصل في هذا المقام القدرة على التعبئة والقدرة على امتصاص إحباطات التجربة.


ومن ناحية ثانية، فإن تحمل الدعاة لأصناف الأذى التي تحيق بهم من شأنه أن يولد ثقافة ترفض الإذعان، وتحتقر الخنوع، وتسوق لنا مجددا وصية خالد بن الوليد: ألا شاهت أوجه الجبناء. غير أن ما يلفت نظرنا رغبة أنصار فصل الدعوة عن السياسة في تدليل العائدين إلى الله لدرجة إبعادهم عن أباطيل وأسمار إعلام السلطة الموجه ودعايات المنافسين وأذى السياسة وبطش السلطة، ولا أدري كيف استخلصوا هذا الفقه من المرحلة المكية التي كان فيها الإسلام مستضعفا التي تنتهي دلالاتها لخلاف هذا بإطلاق. والخلاصة في هذا البند أن تطبيع حضور إرادة المشاركة واستخلاصها من إرادة القهر يحتاج لمسلم يعرف انه يتخير طريق العودة إلى الله بكل ما فيه من إيجابية وبذل ثمن استقلال الإرادة في غير عنف ولا استكبار، بل في مشاركة سياسية سلمية قانونية لا تجاوز فيها لما اتفق عليه المجتمع من إقرار للحريات وعدم فرض الرأي – أي رأي، ولو كان رأيا إسلاميا بالقوة.


ومن ناحية ثالثة، ينبغي الإشارة للتعدد في أنماط التدين والدعوة الإسلاميين، حيث نستلهم في هذا الصدد عدة أنماط تمارس الدعوة للإسلام بمنأى عن السياسة، ولنصف هنا أمثلة الدعوة التبليغية، والدعوة السلفية، والدعوة الدينية الرسمية، ولتتتبع أخي القارئ تاريخ هذه الدعوات، وعلاقتها بثقافة المشاركة، ولتختبر الواقع الذي نعيشه لتعلم أن اللحظة الراهنة تعكس ضعفا حادا في هذه الثقافة، لأن المشاركة إما منعدمة أو انتهازية. فهي منعدمة لأن نمط التدين القائم لا يدعمها، أو هي انتهازية لأن نمط التدين لا يقدم نموذجا للمشاركة الخلوقة الملتزمة ببهاء خلق الدين. وعلى العكس من ذلك، ستجد المشاركة السياسية للعدالة والتنمية في المغرب أو تركيا أو جزئيا في مصر خلوقة ملتزمة بآداب دينها والأعراف السياسية المنظمة للعملية الانتخابية في بلادها. ذلك هو ما نريده.


ومن ناحية رابعة، فإن العودة بالمجتمع إلى حيز المشاركة سيدفع الجميع، حكومات وأحزاب وحركات إسلامية، على توخي مصلحة المواطن في العالمين العربي والإسلامي، مسلما كان أو غير مسلم، بدلا من حالة الفساد التي ترتع فيها عناصر النخبة السياسية الحالية. ولا شك في أن هذا الأمر من المصالح المرسلة التي لابد في إطارها من تقييم وتثمين قيمة الدعوة في علاقتها بالسياسة وتأثيرهما على قابلية الأمة للتعبئة.


وأخيرا، أتوجه للجميع، بما في ذلك الأطياف السياسية العلمانية، مشيرا إلى أن عليهم ألا يعتبروا القدرة التعبوية العالية للتيار الإسلامي شرا عليهم، بل هي خير لهم. إن عودة الأمة لعافيتها في المشاركة سيفتح الباب أمام كل القوى السياسية لتوجيه هذه الأمة، وتجويد رشادة الخطاب السياسي المقدم من الجميع، مما يعود بالأمة إلى مزيد نضج.


لهذا كله أرغب في أن يتمسك الدعاة بعملهم في المجال العام. وأن يولوا اهتمامهم لبعث الهمة في روح الأمة، وبعث ثقافة مشاركتها، وليعلم الدعاة أنهم إن لم يحققوا سوى ارتفاع معدل مشاركة الأمة سياسيا؛ فإنهم حينذاك سيكونون قد أسدوا لهذه الأمة خيرا كثيرا، ولن يترهم التاريخ هذا الصنيع.

تعليقات