أزمة الرسوم المسيئة.. غضب رشيد لمسلمي أوروبا


ليس مبالغة القول إن أزمة التهجم على الرسول صلى الله عليه وسلم كانت إيجابية النتائج بالنسبة للجاليات المسلمة في أوربا. ولم يكن ذلك فقط بسبب الاستجابات الإيجابية الطابع التي ردت بها المجتمعات الأوربية على حس المسلمين، لكن أيضا لأن هذه النتائج استلهمت إيجابياتها من تلك التعددية الصحية التي لفت موقف الخطابات الإسلامية بأطيافها المتنوعة حيال هذه القضية.

الغضبة غير الرشيدة أفادت برغم تجاوزها

وخلافا لبعض الآراء التي ترى أن غضب مسلمي أوربا قد يضر بواقع المسلمين، فإن هذه الغضبة خدمت التيارات الإسلامية المتعددة داخل المجال الاجتماعي والسياسي الأوربي، لأنها وإن تسببت في رد فعل سلبي للغاية لدى الأطراف الأوربية المختلفة تجاوزت الاستهانة بمشاعر المسلمين أحيانا إلى حد العناد وإعادة نشر الرسوم في محاولة لإرهاق المقاطعة التي انتهجتها الجماهير المسلمة خارج أوربا، لكن على الصعيد الأوربي ذاته كان لهذه الغضبة أصداء بالغة الأهمية، منها:

أ – انتبه صناع القرار الأوربيون، حكومات أو معارضة، إلى حساسية هذه القضية في ضوء سعي الدول الأوربية لتكريس التكامل والاندماج في مجتمعاتها بين السكان الأصليين بتنويعاتهم الإثنية والسكان المهاجرين بتنويعاتهم الإثنية والقانونية والفكرية. وهذه الحساسية كانت مصدرا لدفع صناع القرار الفعليين والمحتملين للتحاور مع الأطراف التي تبنت خطابات اندماجية أو خطابات وسطية ذات جوهر/طابع حواري.

ب – لفتت الأزمة أنظار ضحايا الهيمنتين البروتستانتية والعلمانية، والفصائل السياسية ذات الخلفية الإثنية الدينية الأساس إلى أنهم لم يعودوا وحدهم في موضع الضحية، بل أصبح المسلمون يشاركونهم نفس الموقع، ويحملون نفس الرسالة للمجتمعات الغربية مطالبين باحترام كل الأديان ورموزها ومقدساتها، وبتجريم أية محاولة للإساءة للأديان والمساس بالجمهور المتدين. وسيكون من نافلة القول أن نشير إلى أن هذا الخطاب يتمتع بجاذبية عامة لدى شريحة واسعة من المحافظين المنتمين لمختلف الأديان؛ بما في ذلك الديانات غير السماوية التي يتسع جمهورها نسبيا في الغرب بين المهاجرين المنتمين لهذه الأديان والمتأثرين بهذه الأديان والمرتحلين إليها تحت لافتات مختلفة منها الصرعات/الموضات الروحية الجديدة.

كثيرة هي الآراء التي اعتبرت أن مواقف الجاليات المسلمة في الغرب تطورت بصورة إيجابية خلال الفترة منذ اشتعال فتيل الأزمة وحتى الآن. وبرغم أن هذه الصورة صحيحة لكنها ليست الأصح. والأصح أن الحالة الإسلامية في الغرب تتعدد اتجاهاتها بين أطياف متعددة وكثيرة. ونحن لا نتحدث عن اتجاهين أو ثلاثة، بل نتحدث عن أكثر من ذلك بين من يرون أن مرجعيتهم هي الإسلام.

فلو نظرنا للحالة الإسلامية في أوربا فسنجد المحافظين وسنجد الاندماجيين، وبين المحافظين تعدد في الخطابات ما بين الرؤى السلفية ورؤى حزب التحرير ورؤى الأحزاب الإسلامية ذات الأيديولوجية العنيفة والتي استقدمتها بريطانيا لأرضها. وأما الاندماجيون فمن بينهم من يدعو لحالة علمانية شاملة تكون الدولة فيها محايدة حيال المعتقدات، ومنهم من يريد استيعاب الدين الإسلامي في مشروع توافق يفضي لعقد اجتماعي جديد، ومنهم من يتصرف باعتباره مواطنا غربيا ولا يرى ضرورة رفع لافتة تشير إلى انتمائه الإثني.

ولو نظرنا للمهاجرين الذين يريدون الاندماج في المجتمع الأوربي بغير مرجعية إسلامية فسنجدهم كثرة، ومع ذلك فهذه القضية تمسهم من زاوية أخرى تتمثل في إهانة الثقافة التي ينتمي إليها.

تلك هي الصورة المركبة للتعددية الثقافية الإسلامية داخل المشهد الأوربي. ولذا فمن الضروري أن يرقى إدراكنا لتنويعات ردود أفعالها إلى مستوى التعددية الحقيقية داخلها.


التعددية في الاستجابات الإسلامية

إن تجاوزنا المنظومة الاختزالية التي لا تعتبر مساحة التعددية في الحالة الإسلامية الأوربية، تثور أمامنا عدة تساؤلات، أهمها: هل كانت استجابات الجالية المسلمة في أوربا صحية حيال أزمة التهجم على الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وهل تفاوتت الاستجابات بما يعبر عن التعددية الحقيقية والاختلافات الكبيرة بين أطياف الخطاب الإسلامي في أوربا؟

تميل القوى اليمينية المرتابة من الوجود الإسلامي في أوربا إلى اختزال ردود فعل الحالة الإسلامية في أوربا في اتجاه واحد يغلب عليه الصراخ والاستغاثة، وتشير بعض التحليلات إلى أن هذا التيار هو الأساس، بينما تقع على هوامشه أصوات تحاول عقلنته. وبصرف النظر عن اتهامنا الضمني لهذه الرؤى، إلا أن الخطاب الاستغاثي الصراخي كان موجودا، لكنه لم يكن التيار الأساسي، بل كان التيار الأضعف ضمن ثلاثة تيارات.

ولكي نفرغ من مشقة رصده، فقد وجد الخطاب الصراخي الاستغاثي. ومما قرأنا لتمثيله ما عبر عنه الدكتور عزام التميمي مدير معهد الفكر السياسي الإسلامي بالمملكة المتحدة، والذي رأى في لقائه بقناة الجزيرة القطرية أن "الإٍسلام شامخ منتصر ممتد وهذا الذي يأكل قلوب من يتطاول على الرسول غيظا". وقد أشار إلى أن "الرسول صلى الله عليه وسلم هو اليوم الشخصية الأولى في العالم في كل القارات.. في كل قارات الأرض، أتباعه في أوربا في أمريكا في كل أصقاع الأرض يقولون أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وهذا يغيظ هؤلاء لأنهم فقدوا البوصلة، وأصبحوا لا دين لهم، حتى الدين عندهم الذي لا يزال موجودا في قلوب كثير من الناس أصبح خائفا راجفا مختبئا وراء كثير من الشعارات ولا يقوون على الدفاع عنه، بينما نحن في حالتنا الدين هو من وراء هذا الحراك الاجتماعي الذي يريد الإصلاح يريد النهضة ويريد التحرير..."، وأشار إلى أن التهجم على الرسول "لا نقبل به ويجب أن تعاقب أوربا ويجب أن يعاقب كل من ينشر هذه الصور". ولا داعي للخوض في دلالة المعاقبة وصاحب السلطة في العقاب، فهذا مما يضيق دونه المقام.

أما الاتجاه الثاني فكان اتجاها وسطيا، يمكن القول بأن أهم من يمثله البروفيسور طارق رمضان. حيث نقلت جريدة "لو فيجارو" الفرنسية عنه رأيه بأن ردود الفعل في العالم الإسلامي على الرسوم المسيئة للنبي "مبالغ فيها"، وأنه قد دعا إلى "نقاش هادئ وعقلاني"، وندد بالدعوات إلى "المقاطعة" والدعوات إلى القتل، ورأى أنها تخدم اليمين الأوربي المتطرف. وقد ندد رمضان بما أسماه "استقطابا خطرا بدأ يفرض نفسه، ويشجع المواقف المتطرفة من الجانبين"، كما دعا المسلمين لأن "يعتادوا على اتخاذ مسافة نقدية"، ولأن "يعيشوا في عالم كوني يعتمدون فيه الحوار منهجا، كما ينبغي فيه أن تكون ضمائرهم قوية بما فيه الكفاية للتغلب على حساسياتهم المجروحة". ولم يفت طارق رمضان طبعا أن يشير إلى أنه "في الإسلام، لا يجوز رسم الأنبياء".

أما الاتجاه الثالث، وهو الاتجاه الأكثر نضجا واتزانا من وجهة نظري فيتمثل في منهج الأستاذ أنس التكريتي الذي دعا في مشروعه إلى أن تقدم المملكة المتحدة أنموذجا للدولة الأوربية الليبرالية التي تعتبر مثالا في استيعاب التعددية بكل مستوياتها العرقية والدينية والثقافية، باعتبار أن بناء نموذج مجتمع تعددي بهذه الصورة من شأنه أن يضع ضوابط على ما قد تقترفه الجماعات الإثنية والثقافية والدينية بحق غيرها من الجماعات التي تشاركها نفس المجتمع، في إطار حرية مسئولة، وهو ما من شأنه أن يضمن الانسجام والتوافق المجتمعي الإيجابي الذي تحميه قوة القانون. لكن أنس التكريتي تجاوز بأطروحته أن تحميها نصوص القوانين لصالح تعميق الحوار الذي يجعل هذه القيم التعددية المتباينة محمية بموجب الضمير المجتمعي العام. وقد خرج مشروع أنس التكريتي للنور عبر تظاهرة قادها في لندن، تتضمن توليفة إسلامية كاثوليكية متضامنة.

وبين هذه الاتجاهات الأساسية وجدت بعض الأطياف التي يمكن القول باستيعابها ضمن هذه الاتجاهات الثلاثة، لكن لم تتضح أطروحتها بصورة كافية.


بين فقه الاندماج وفقه الأقليات المسلمة

ومن خلال الطرح السابق يمكننا أن نشير إلى أن الحوار كمسلك في رد فعل مسلمي أوربا على قضية التهجم على الرسول قد اتخذ الصورتين المشار إليهما، مع استثناء الخطاب الاستغاثي الصراخي، وهما صورتان تفترقان كثيرا في فلسفتيهما.

فالطرح الذي يمثله طارق رمضان دعا لإقامة حوار حول ضرورة احترام حقوق الأقلية من زاوية استيعاب الأزمة ومحاولة منع تكرارها لإضرارها بمشاعر الأقلية. وهذا الطرح يصب في فقه الأقلية المسلمة الذي يحرص على صون حقوق هذه الأقلية وصياغة أسس علاقتها بالمجتمع الذي تعيش فيه باعتبارها أقلية ذات دين يخالف الثقافة المسيحية الأوربية، ومن ثم ينبغي توفير ضغوط على الحكومات لأجل فرض احترامه.

أما طرح أنس التكريتي، فقد حرص على التعامل مع الأزمة لا باعتبارها أزمة أقلية دينية مسلمة في مجتمع مفتوح، بل باعتبارها قضية مجتمع مفتوح به درجة عالية من التعددية الدينية والإثنية والثقافية بحاجة لتطوير ثقافته العامة ليتسنى له استيعاب حقيقة أوضاعه التعددية الراهنة وتطوير آلية إدارتها.

الطرح الأول نبع من منطلق الأقلية المسلمة أما الثاني فنبع من منطلق المجتمع التعددي، لذا كان من الطبيعي أن يقود الأول لتكريس الوعي بالقضية ضمن دائرة الأقلية فيتحرك المسلمون وحدهم للضغط لمعالجة الأزمة، بينما كان من الطبيعي أن يقود الثاني لتظاهرة تضم مسلمين وغير مسلمين سعيا لمعالجة مشكلة تمس المجتمع الأوربي كله متمثلا في النموذج البريطاني.

تعليقات