الإعجاز العلمي.. بين الدعوي والثقافي


الحديث عن الإعجاز العلمي حديث عن آلية دعوية فعالة نشأت كاستجابة لمحاولة افتعال وقيعة بين الإسلام والمكتشفات العلمية. هذه الوقيعة من شأنها أن تجعل القرآن منتج تاريخي غير قادر على استيعاب التطور على الصعيد العلمي. وفي هذه الحالة يفقد القرآن حجيته في مواجهة عالم تتطور منتجاته العلمية بمتتالية متسارعة. وهذا ما يدعونا للوقوف على دور هذه الآلية في الدعوة ولماذا تجد هجوما على منهجها في الآونة المعاصرة، سواء حمل هذا الهجوم غيرة على الدين أو غيرة منه من ناحية أخرى. هذا ما نحاول استكشافه في هذه الورقة.

وبرغم الفعالية التي تحظى بها هذه الآلية في مجالات محددة سنراها تاليا، إلا أن هذه الآلية الدعوية تواجه بحملة فكرية تحمل على عاتقها رهاب مرضي اسمه تسكين العقل. يقوم هذا الرهاب على اعتبار أن هذا المنهج يضمن نوع من التفوق الافتراضي للدين الإسلامي، يعمل كمخدر للوعي، ويدفع المسلمين للاستسلام بواقع التعويض، ومن ثم يتقاعسون عن إعمال العقل وبذل الجهد لمواجهة الفجوة العلمية بين العالم الإسلامي والعالم الغربي. ومع تقديري لوجهة النظر هذه إلا أن توقف العقل عند حضور منهج دعوي بديل كهذا هي مشكلة تعكس رغبة في الخلود إلى الأرض لدى من يريد التقاعس، ولا تعكس خللا في قدرة هذه الآلية على معالجة احتياجات دعوية محددة سنراها تاليا.


الإعجاز.. استجابة أم رد فعل

قلنا أن آلية الإعجاز العلمي مثلت نوعا من المواجهة للحالة التي تعلو بالنظريات العلمية النسبية على مطلق الوحي رافضة أن ترتكن إلى الوحي كمصدر من مصادر المعرفة، فضلا عن أن تؤمن به. ولهذا يمكن القول بأن اللجوء لآلية الإعجاز العلمي ضمن أساليب الدعوة لم تتجه نحو التبلور الذي نلمس نتائجه اليوم إلا في إطار استيعاب الوعي الإسلامي لمحورية دور العلم في إدارة العلاقة مع الغرب المستعمر (نموذج الشيخ طنطاوي جوهري)، كما شهد اتجاها نحو مزيد من التبلور مع نشأة اتجاهات التغريب التي تقرن بين المذاهب الاجتماعية الحداثية كالاشتراكية وغيرها وبين العلم استنادا إلى ما دعاه البعض: وحدة المنهج في العلوم. وهذا المنهج في فلسفة العلم حاول أن يفرض إمكانية استخدام المنهجية العلمية المستخدمة في العلوم الطبيعية على العلوم الاجتماعية والإنسانية، وكانت النتيجة المحتمل ترتبها على ذلك المنهج تتمثل في القول بعدم صلاحية القرآن للتعاطي مع واقع علمي طبيعي يمكن سحبها على واقع القرآن كشريعة تنظم الحياة الاجتماعية.

وفي هذا الإطار تمثلت استجابة العلماء المسلمين تطوير آلية لاكتشاف استيعاب المنهجية الإسلامية لمكتشفات العلوم الحديثة وعدم تناقضها معها. والواقع أن التاريخ الإسلامي شهد من قبل استجابات إسلامية كثيرة لضغوط الواقع على الدعوة الإسلامية والعقيدة، لعل أبرزها علوم الحديث التي نشأت بسبب الوضع والتدليس وتجريح وتزكية رواة الأحاديث، وعلم الكلام في صورته الاعتزالية ثم تطورها نحو التوجهين الأشعري والماتريدي. وعلم أصول الفقه، وغير ذلك من الأمثلة الكثير.

فارق كبير بين اللفظين: "الاستجابة" و"رد الفعل". الاستجابة طرح منظم مدروس مبني على تقدير للحال والمآل بما فيهما من ظروف وتركيبات، أما رد الفعل فيغلب عليه الارتجال والتخبط والرغبة في فعل شئ مضاد من دون ضبط للبوصلة في اتجاه يراه أصحاب رد الفعل صحيحا. كما تجدر الإشارة إلى أن تاريخ التحولات الحضارية ومسيرة التاريخ كما يرى المؤرخ أرنولد توينبي هي سلسلة منهجية من المثيرات والاستجابات، ولا نطنب إذا ما أشرنا إلى أن رسالات الله بالإسلام في ثوبه اليهودي أو المسيحي أو المحمدي إن هي إلا قدر وضع له الله تعالى صورة الاستجابة لانحراف البشر عن الفطرة والغاية من الخلق.

وحين نتحدث عن تخوفات مشروعة لبعض المثقفين المسلمين من أن يكون اللجوء للإعجاز العلمي أمر من قبيل الفرار واللواذ بالنص القرآني المغلف بغلاف الإعجاز العلمي كنوع من التعويض النفسي عن حالة التراجع أمام مد الغرب، هذا التخوف "المشروع" على الدعوة مرده مراجعة المفكرين لـ "حضور الغرب والمواجهة معه في الخطاب الدعوي الإسلامي" وأثره هذا الحضور وتوجهه وطبيعته سلبا على الخطاب الإسلامي لدرجة التأثير على القرآن نفسه، حيث إن مفردة العلو الإسلامي المستخدمة في الخطاب الدعوي لا تستقيم من دون تحقير الغرب اجتماعيا وأخلاقيا وتعويض الفقر التكنولوجي و"ردم" الفجوة العلمية بين الذات والغرب باللجوء للإعجاز العلمي والمغالاة فيه والاستغراق به بصورة غير صحية، وهو ما قد يعني في النهاية حرمان الأمة من عدة أمور مهمة لمستقبلها، منها ما يلي:

أ – عدم رؤية الجانب الجيد من منجزات الغرب العلمية والاجتماعية. وعدم إبصار التعددية الحقيقية داخل الغرب وتقاطع هذه التعددية مع آمال أمتنا وطموحاتها.

ب – استمرار الهروب من الواقع ثقافيا والعيش في حالة وهم ظاهرها الإحساس بالاستعلاء على الغرب بالإعجاز العلمي وباطنها تكريس عقدة تفوق الغرب في باطن وعي الأمة.

جـ- - عدم مراجعة مناهج الكثير من الحركات الإسلامية التي تكلست وعجزت عن مواجهة تطورات الواقع الاجتماعي بالتركيز على قائمة من القضايا الهروبية، ومن بينها قضايا بالغة الأهمية لكن ساء توظيفها.

هذه التخوفات مشروعة، ومن حق أي غيور على الخطاب الإسلامي إعادة فتحها لوضع سقف لأي توظيف خاطئ لآلية دعوية هامة، تماما كما أدت سجالات المنهج السلفي مع المنهج الاعتزالي إلى بروز المنهج الأشعري الغالب على العالم الإسلامي التعاطي به اليوم. لكن الفارق بين سجالات السلفية والمعتزلة وما بين الهجمة على الإعجاز العلمي أن الأولى كانت بين منظومتين واضحتي المعالم لا بين منظومة مستقرة وأخرى قيد التشكل.

لكن لا يزال التحفظ على الإعجاز العلمي حاملا أزمة أخرى منهجية، سيرد الحديث عنها لاحقا.


الإعجاز والدعوة.. الدعوة النخبوية

مئات من العلماء والمفكرين والفلاسفة مست تطبيقات مفهوم الإعجاز العلمي قلوبهم. ولعل حصرهم مسألة تحتاج لوقت غير الوقت ومقام غير المقام، لكن حسبنا في ذلك الإشارة لذلك الكتاب الطيب: لماذا أسلمنا الذي جمعه ورتبه عبد الحميد السحيباني، ليعرض لنا شهادات عدد كبير من العلماء الطبيعيين: الفيزيائيين والفلاسفة والأطباء الذين تحولوا للإسلام بعد أن تعرضوا لمؤثرات من دعاة مسلمين ركزت على قضايا الإعجاز العلمي والرحلات إلى بلاد الشرق.

ومن بين هؤلاء المئات نأخذ مثالا الفيلسوف الفرنسي البارز رينيه جينو، والعضو في مجلس النواب بفرنسا، حيث قال عن سبب إسلامه: "لقد تتبعت كل الآيات القرآنية ذات الارتباط بالعلوم الطبية والصحية والطبيعية، التي درستها من صغري، وأعلمها جيداً، فوجدت هذه الآيات منطبقة كل الانطباق على معارفنا الحديثة، فأسلمت لأني تيقنت أن محمداً أتى بالحق الصراح من قبل ألف سنة. ولو أن كل صاحب فن من الفنون، أو علم من العلوم، قارن كل الآيات القرآنية المرتبطة بما تعلم مقارنة جيدة كما قارنت أنا لأسلم بلا شك، إن كان عاقلاً خالياً من الأغراض".

وغير جينو هناك المئات، نذكر منهم المفكر السويسري روجيه دوباكييه، والمفكر الفرنسي روجيه جارودي، والمفكر النمساوي ليوبولد فايس، والأديب والفيلسوف الإنجليزي مارتن لينجز، و الدكتور الفرنسي موريس بوكاي، وعالم الرياضيات الكندي جاري ميلر ، و أحد أكبر علماء التشريح والأجنة في كندا كيث مور، والبروفيسور تيجاتات تيجاسون رئيس قسم علم التشريح في جامعة شيانك مي بتايلاند، و أستاذ الرياضيات الأمريكي جيفري لانج. ولن نتحدث عن علماء أكثر، ولن نتحدث عن قساوسة تحولوا إلى الإسلام بسبب أزمة المسيحية الحقيقية مع العلم، لكن هذا العدد الكبير من العلماء مؤشر على أهمية هذه الآلية الدعوية.

ولو عدنا لرينيه جينو – كمثال - لوجدناه في ممارسته للدعوة الإسلامية، وقد أطلق على نفسه بعد إسلامه اسم الشيخ عبد الواحد يحيى، وبدأ يركز في أفكاره على المرجعية الإسلامية لحضارة الغرب وثقافته، والفضل الكبير الذي كان للمعطى الإسلامي على الغرب في مضامير الطب والهندسة والفلك والرياضة والفنون والعلوم الأخرى، ولم يكتف بذلك، بل أخذ يُظهر عظمة القرآن وإعجازه العلمي بعد أن وجد ارتباطاً بين الآيات القرآنية وما جاءت به الكثير من العلوم الطبية والطبيعية والعلمية بوجه عام.

والحق أننا عندما نتحدث عن إسلام هؤلاء العلماء فإن هذا الحديث لا يعني هروبا، ولا يعني اتكال على الإعجاز، لكنه تقدير للمسؤولية حيال نخبة من العلماء الطبيعيين أو غيرهم، رفيعي التكوين الثقافي، مؤهلي القدرة البحثية النقدية، وهو ما يثير مسؤولية دعوية على مستويين،الأول: هل أضحى هؤلاء البشر الذين سيسألنا الله عنهم يوم القيامة بمعزل عن الدعوة الإسلامية متترسين بالعلم، والثاني: هل انعدمت لدينا القدرة على مواجهة ما قد يثيره هؤلاء من شبهات علمية في وجه الدين؟ والإجابة على هذين السؤالين تعني أن الإعجاز العلمي كآلية دعوية نجحت في التعامل معهم على عدة مستويات في المجال، منها:
أ – تدشين آلية قادرة على الاستجابة لقدراتهم التمحيصية المتجاوزة لقدرة الإنسان العادي، وهو ما يعكس استجابة فعالة للمسؤولية عن أمرين أولهما: الاطمئنان إلى القدرة على دعوة هذه الفئة المتعالية من البشر، وثانيهما: الاطمئنان على القدرة على مواجهة تحديات قد يثيرونها في مواجهة الإسلام.

ب - توفير مرجعيات قطرية أو أكاديمية للدعوة في الدول الغربية. فالدعوة الإسلامية في العالم غير المسلم تحتاج إلى توفير رموز لتمثل قدوة أو مرجعية للاستشارة أو معيار للمقارنة الدعوية أو نموذج للاستشهادات الدعوية أو سابقة يتم تقديرها بقدرها.

جـ - تجديد دلالات الألفاظ العربية المستخدمة قرآنيا من خلال عدم قسرها على التاريخ وفتح الباب أمام دلالتها لتتطور وتستوعب المستجدات. وهو ما يتيح استخدامها بما اكتسبته من حيوية وثراء دلالي في الدعوة إلى الله للانتقال بآلية الإعجاز من حيز التعامل مع النخبة إلى حيز تثقيف المسلم العادي.

وأيا ما كان الأمر، فإن مواجهة هذه الاعتبارات جميعها تحتاج لمعالجة هذه الآلية على أعلى مستوى من الإحساس بالمسؤولية العلمية، تحملا لتبعة دعوة هؤلاء، وحمل امانة مصداق قوله تعالى: "سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِى الآفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ" (فصلت: 53).


الإعجاز العلمي ومشكلة المنهج

قبل فترة أثيرت ضجة حول منهج الإعجاز العلمي ومدى لياقته كمنهج ومدى صلاحيته لتقديم صورة عن القرآن في علاقته بالمنجزات والمكتشفات العلمية، حيث أثيرت مقولات حول عدم لياقة منهج تفسير القرآن بالاستناد لمعطيات نتاج العلوم الطبيعية. وهو ما أرى فيه تكلف وتعسف بعض الشئ في التعامل مع هذه الآلية العظيمة. ويمكن أن نلحظ هذا من خلال معالجة حجج المتشككين في لياقة منهج الإعجاز في التعامل مع القرآن.

يميز العالم الجليل الدكتور زغلول النجار بين مفهومين هامين في مجال العلاقة بين القرآن ودلالات ألفاظه وبين العلم، وهما:

أ - مفهوم التفسير العلمي: ويقصد به فضيلة الدكتور زغلول النجار توظيف كل المعارف العلمية المتاحة لحسن فهم دلالة الآية القرآنية. ويميز فضيلة الدكتور في هذه المعارف بين ما يعتبر حقائق وقوانين مستقرة، وبين الفروض والنظريات قيد الفحص، والمتعاملين في هذا المستوى من منهجهم أن يقوموا بتوظيف الحقائق والقوانين كلما توفرت بسبيل تحقيق الهدف، فإن لم تتوفر الحقائق والقوانين فليس ثمة حرجًا من توظيف النظريات لأن التفسير بصفة عامة "جهد بشري"، وتبقى إسهامات الباحث في الإعجاز العلمي "محاولة بشرية" لحسن الفهم، فإن أصاب المفسر فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد، ولا ينسحب خطؤه علي جلال القرآن الكريم.

ب - مفهوم الإعجاز العلمي: فيرى فيه فضيلة الدكتور زغلول النجار موقفا من مواقف التحدي الذي يراد من خلاله أن نثبت به للناس كافة أن القرآن – الذي نزل قبل 1400 سنة علي النبي صلي الله عليه و سلم في أمة كان غالبيتها الساحقة من الأميين – يحوى من حقائق هذا الكون ما لم يستطع العلماء إدراكه إلا منذ عشرات قليلة من السنين، وهذا السبق يستلزم توظيف الحقائق، ولا يجوز فيه توظيف الفروض والنظريات إلا في قضية واحدة وهي قضية الخلق والإفناء وإعادة الخلق (خلق الكون و الحياة و الإنسان و إفناء ذلك كله و بعثه من جديد) لأن هذه القضايا لا تخضع لأدراك المباشر للإنسان، ويبقى للمسلم نور من كتاب الله أو من سنه رسوله (صلي الله عليه وسلم) يعينه علي أن يرتقي بإحدى تلك النظريات إلي مقام الحقيقة، ونكون بذلك قد انتصرنا للعلم بالقرآن الكريم أو بالحديث النبوي الشريف.

وتعليقي الأولي على هذين المفهومين أنهما مستويين لتطبيق منهجي واحد، لكل مستوى منهما وظيفة وجمهور محدد، وهو ما رتب الاختلاف الجزئي للمنهج بين المستويين. لكنني برغم إدراكي لأهمية المستويين أرفض اعتبار الأمر تفسيرا، ولا أجده في الحقيقة تفسيرا، وهي القضية التي لاقت رفضا واسعا وتعليقا كبيرا. أنا أراه خواطر لغوية تستفيد من المنجز العلمي في مجالين هما اللغة والدعوة. ويجب أن أؤكد مرة أخرى على أن رفضي للاسم لا يعني رفضي للمسمى، فأنا واع بأهميته وقيمته، لكن المسمى "تفسير" دال له حقله الدلالي المختلف الذي قد يستوعب الإعجاز العلمي من باب اتساع الدلالة اللغوية للمفردات القرآنية استنادا لمكتشفات العلم.

ونظرا لأن المفهومين أضحيا – من وجهة نظري – مفهوما واحدا؛ ونظرا لارتباط هذا المفهوم بعلاقة اليقيني المطلق بالنسبي الظني؛ فإن المشكلة التي أثارها البعض في مواجهة الإعجاز العلمي على صعيد المحتوى يمكن الوقوف على أساسها متمثلا في قول الأستاذ سيد قطب – رحمه الله – في الجزء الرابع من كتابه القيم "في ظلال القرآن": "إن القرآن الكريم ليس كتاب نظريات علمية، ولم يجئ ليكون علمًا تجريبيًا كذلك، إنما هو منهج للحياة كلها، منهج لتقويم العقل ليعمل وينطلق في حدوده، ولتقويم المجتمع ليسمح العقل بالعمل والانطلاق، دون أن يدخل في جزيئات وتفصيليات علمية بحتة، فهذا متروك للعقل بعد تقويمه وإطلاق سراحه، وقد يشير القرآن أحيانًا إلي حقائق، ونحن نستيقن هذه الحقيقة لمجرد ورودها في القرآن ونتقبل النظريات التي لا تخالف هذه الحقيقة المجملة التي قررها القرآن، ولكننا لا نجري بالنص القرآني وراء أي نظرية ولا نطلب تصديقًا للقرآن في نظريات البشر وهو الحقيقة المستيقنة!!". كما أنه ضمن هذا الرأي أيضا في كتابه هذا الدين.

وعند تجريد المشكلة نجد أن الرأي المتوجس من الإعجاز العلمي يخشى من نتائج توقيف صدقية القرآن الكريم على نظريات علمية لا ترقى لمستوى اليقين والإطلاق الذي يتسم بهما القرآن الكريم وقطعي الدلالة من السنة النبوية المشرفة على قائلها أطيب الصلاة وأزكى السلام. وهذه الغيرة محمودة، ولكنها جزء من التاريخ. ومصدر هذه الغيرة النظر إلى أن العلم حقق طفرة كبيرة بموجب قوانين نيوتن الثلاثة. ثم جاءت النظرية النسبية لترفض ما ترتب على هذه القوانين من نظريات وأبدعت منظورا جديدا وتطبيقات أحدث في مجال الفيزياء والرياضيات البحتة والتطبيقية وغيرها من المجالات. ثم جاءت نظرية الكوانتم لتثبت وجود أخطاء جسيمة بالنظرية النسبية، وقدمت مشروعا لعلاجها، وفندت النظريات التي بنيت على تلك الأخطاء واستبدلتها بالجديد، وهكذا يسير العلم دواليك. فهل هذه النظريات تصلح لأن نقيم صدقية وصلاحية القرآن بالاستناد إليها.

والحقيقة أن منهج أداة الإعجاز العلمي – مثله مثل أي منهج – له مسلماته. فلو نظرنا لتفسير القرآن بالأثر نجد أن من مسلماته مثلا صحة الأثر، ثم أولوية القرآن على السنة في حالة التعارض وعدم إمكان التوفيق.. إلخ. كما أن كل من مناهج المعتزلة (الكشاف للزمخشري)، والأشاعرة (زاد المسير لأبي الفرج الجوزي)، وهكذا تختلف تأثيرات المنهج في النظر للقرآن الكريم بحسب مسلمات كل منهج. وتكمن صلاحية المنهج الذاتية في التزامه بمسلماته، وتكمن صلاحيته في الاستخدام في القبول بالمنهج ومسلماته.

وفي هذا الإطار نجد أن من مسلمات منهج الإعجاز أنه لا يوقف صحة وصلاحية النص على نتائج النظر العقلي. فهو ليس تفسيرا أو استشهادا على خطا المنهج المعتزلي، بل إن الخط الأساسي لهذا المنهج يعتبر القرآن هو المركز، وتخدمه الحقائق والنظريات العلمية طالما أنها لا تؤدي للي عنق النص/تأويله. ومع اختلاف مستوى الإعجاز تتفاوت المسلمات على نحو ما أوضحنا في تعريف مفهومي الإعجاز والتفسير. كما أن لغة القرآن من إعجازها أنها استوعبت التطور العلمي داخلها من دون الحاجة لقهر مفردات القرآن. فقوله تعالى: "والأرض بعد ذلك دحاها" (النازعات: ) حملت لدى الإعرابي البسيط في زمن النبوة معنى الاستواء والتمهيد، وحملت في القرن العشرين معنى جعلها كالبيضة أي شبه كروية. ففي إطار اتساع اللغة العربية ومفردات القرآن لمثل هذا التحول هو المقصود بالإعجاز. فهذا القرآن حمل هذه المعلومة منذ 14 قرنا في مفردة لغوية اتسعت لكلا الدلالتين. وفي هذا الإطار أختم بثلاث ملحوظات بالغة الأهمية.

الملحوظة الأولى أن هناك معلومات مستقرة ومتفق عليها علميا الآن من قبيل أن الأرض كروية ومن قبيل صدع الأرض، فهذه المعلومات والحقائق مؤكدة بشهادات العلماء، ولن تتغير. فلن نستيقظ يوما لنجد أن الأرض قد صارت مربعة. لكن التغير في الفرضيات والنظريات العلمية التي لم ترق لمستوى الحقائق والمعلومات وتلاحق هذه النظريات وتعاقبها على نحو ما أوضحنا من قوانين نيوتن إلى النظرية الكمية.. وغيرها من المجالات، فهذه النظريات الظنية لا تتوقف عليها صحة القرآن. فهذا ليس من مسلمات منهج الإعجاز. فما وافق منها القرآن استوعبته النظرية كاحتمال لغوي يعجز القرآن، وما خالف القرآن اعتبرناه ظنيا وتعاملنا معه باعتباره مجرد نظرية طالما لم يرق لمستوى المعلومة. وقد أثبت التاريخ، وتحولات العلماء باتجاه الإسلام أن هذا المنهج سليم وفعال طالما تم الالتزام بمسلماته.

الملحوظة الثانية: اللغة اجتماعية. والعلاقة بين الدال والمدلول في اللغة: أي بين المفردة ومعناها علاقة ذات بعد اجتماعي. فلو نظر احدنا لدلالة كلمة معينة سيجد في القواميس والمعاجم المحترمة أنها لها دلالات عديدة، بعضها ترقى أو انحط بسبب الاستعمال، وبعضها تراجع في دلالته على المفردة إلى رتب دنيا نتيجة الهجر وسوء الاستعمال. بل إن بعض المفردات نشأت واستحدثت في إطار عمليات التعريب والترجمة واختلافات المذاهب والاكتشافات العلمية. في هذا الإطار يمكن استيعاب التطور العلمي وعلاقته بالإعجاز. فاكتشاف كروية الأرض هو إضافة للحقل الدلالي لمفردة "الدحية" التي استخدمها القرآن للدلالة على تسويته لهيئة كوكب الأرض، وهكذا.

الملحوظة الثالثة: لا يمكن عندما نعالج هذا الموضوع أن ننكر أننا نتحدث عن مجال بحثي يخضع لفحص مجتمع بحثي مؤهل للتعامل مع هذه المساحة، ويعلم المؤاخذات التي تترتب على تجاوز هذا المنهج لمسلماته. وفي هذا الإطار نشير إلى إسهامات العلماء الأجلاء مسلم شلتوت وأحمد شوقي إبراهيم والباحثين الجادين أمثال علي أسعد وغيره في تأصيل وتطوير ضوابط المنهج ومسلماته وفي مراقبة تشغيل هذا المنهج، وهكذا كانت الثقافة المسلمة دوما.. إبداع على مستوى المنهج ثم تشغيل هذا المنهج وتلقي الاستجابات عليه وتطويره.

تعليقات