مبدأ تلقي العلم والاستمرارية الحضارية الإسلامية


العنوان رسالة مباشرة تعبر عن حقيقة ما نكتبه الآن. فقديما قال أحد علماء السلف محذرا: "لا تأخذ العلم من صُحُفي ولا القرآن من مصحفي". وهذه العبارة تعني ألا يأخذ المسلم علمه من مسلم آخر فتح كتب العلم فقرأها من دون أن يدارسها مع عالم أكبر وأفقه منه وقت القراءة، وألا يأخذ القرآن ممن قرأه فقط من المصحف ولم يجلس إلى قارئ فيقرأه عليه. ولعل القصد في القرآن واضح، حيث إن الأصل في تحصيل القرآن وقراءته أن تقرأه على من يحوز سندا في قراءته، حتى تتجنب اللحن: كبيره وصغيره. لكن قائل هذه العبارة – الحكيمة ولا شك – عنى علوم الشريعة فيما عنى، وليس القرآن فقط. ولا أدري أكان يعلم أن هذه المقولة تحوي آلية كبرى من آليات استمرار الحضارة الإسلامية أم لا؟ فكيف تحوي هذه المقولة هذا السر وتلك الآلية من آليات استمرارية الحضارة الإسلامية. أكمل معي السطور التالية لتعرف الإجابة!


ثقافة التلقي وتواصل المسيرة الحضارية


عندما ينظر الباحث المدقق لمسيرة التاريخ يجد أن الحضارة الإسلامية قد أنجزت خلال نصف قرن من الزمان ما أنجزته غيرها من الحضارات في أربعة أو خمسة قرون، ومرد ذلك كان لأمرين:


الأمر الأول – وهو ليس موضوعنا ولكن لا مشاحة في ذكره ولا مفر من ذكره أيضا لاكتمال المشروع - أن المنهج الرباني وجه هذه الأمة لتجنب مواطن الزلل التي تمر بها الحضارات في صوغ العلاقات بين شرائح وتكوينات المجتمع، وبين المجتمعات وقياداتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهو ما جعل المسيرة محددة الأولويات واضحة المعالم؛ فتجنبت الأمة مواطن الزلل ومواضع السقوط، ولم تتكبد عناء المراجعة الأولية لبدهيات تأسيس الحضارة، بل انطلقت في مسيرة نشر الدعوة والبناء الاجتهادي على البناء الأساسي المتمثل في أصول الدين قرآنا وسنة، مسترشدين في هذه المسيرة الاجتهادية التي صاغت وضبطت كل مناحي الحياة بما وفره المشرع جل وعلا من ملامح منهجية هي ما نعرفه اليوم باسم المنهج الأصولي أو أصول الفقه.


أما الأمر الثاني وهو الأهم من وجهة نظري فيما يتعلق بموضوع هذه الرؤية فيتعلق بالتواصل الرباني مع الأمة وكيفية الحفاظ عليه لتحقيق سبب خيرية هذه الأمة. فالقرآن نزل من لدن الله العلي الحكيم، نزل على قلب من؟ نزل على قلب قائد هذه الأمة صلى الله عليه وسلم. ولكن.. هل كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا العلم اللدني واكتفى بترجمته لمشروع اجتماعي ينقله لأتباعه؟ كلا. لو فعل ذلك لكان مصدر تواصل الربانية مع هذه الأمة قد انقطع بموت الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الرسول – كما أمره ربه – شرع في نقل كلام الله – كما نزل عليه حرفيا – إلى أتباعه جميعا؛ ليحفظوه أولا، وليطبقوه ثانيا، وليجتهدوا في تفسيره على عين الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقوم ما المعوج من منهجهم وينصف المستقيم ويدعمه بسنته القولية.


وهكذا بدأت سلسلة التواصل الرباني مع هذه الأمة. أنزل الله تعالى كتابه على رسوله، ونقل الرسول الكتاب ومثله معه لعموم الأمة، والأصل أن تستمر عملية النقل هذه متتابعة في الأمة إلى أن يأذن الله بعلامات الساعة وما يتبعها بخصوص العلم الذي يبدأ بنزع العلم ثم محو القرآن من الصحف ليبقى ما في الصدور.


كان قتال علماء السلف بمكافحة الفلسفة وعلم الكلام لعدة أسباب من بينها أن شريحة من الأمة لم تكن لتتلقى العلم الشرعي، بل كانت ستتركه لعلوم مهمة في الدفاع عن العقيدة لكنها ليست العقيدة ولا الأصول. أنا لست بصدد تقييم هذا الموقف، بل أعرضه لأبين أهمية عملية التلقي التي لم تكن تعني لعلماء السلف سوى استمرار حبل التواصل مع مصدر الرسالة: رب العزة جل شأنه. وكانت ملامح هذا العلم تنتج تأثيرها من عدة زوايا، يمكن إجمال أبرزها فيما يلي:


أ – يشعر المسلم حين يقوم بتلقي العلم الشرعي أنه موصول بحبل الله الذي لا ينقطع، ويصبح التواصل مع الرسالة جزء من بناء حياته، فيشعر في المنتهى بأنه يتحرك بشريحة ربانية من العلم هو منتهاها النسبي ورب العزة مبتداها؛ فتتحقق استمرارية الإحساس بربانية الرسالة.


ب – هذا الإحساس بالتواصل مع مصدر الشريعة عاصم للإنسان المسلم من الوقوع في شراك ما يبعده عن طريق الله. وحتى لو أخطأ؛ فإن تربيته على أنه يحوي بين ضلوعه طرف الخيط الذي يقف مبتدؤه بين يدي ربه كفيل بأن يرده إلى رحاب ربه طائعا. كما انه يشعر المسلم بالعزة في مواجهة محاولات إشعاره بالنقص أو محاولات سلبه هويته وثقافته.


جـ - تربية المسلم على أنه يحمل دين الله بين جنبيه، يجعله يشعر بالمسؤولية التي تقع على عاتقه كفرد – أو كعضو في أي تكوين اجتماعي حيال تقويم الجمع الذي ينتمي إليه، وحيال العودة به دوما لرحاب ربه، حيث القرآن محفز للمسؤوليتين الفردية والجماعية. هكذا فقط تتحقق وتتوفر أسباب الخيرية التي تحدث عنها ربنا بقوله تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس" (آل عمران: 110).



خصائص منهج التلقي الكفيلة بتغذية هذه الروح


إن خصائص عملية التلقي كفيلة بتحقيق روح التواصل مع حبل الربانية. فهو مبدأ في بنيته تحقيق هذا التواصل مع الربانية، وكلما مارسته كلما تكرست قضية التواصل مع رب العزة في نفس المتلقي.


فعندما يجلس الطفل الصغير إلى شيخه ليخبره عن ضرورة نطق حرف اللام مرققا وليس مفخما بينما يتوجب تفخيم حرف الراء والقاف وغيرهما في مواضع معينة يكون السؤال: ولم كل هذا العناء، فيأتي جواب الشيخ لتلميذه: لأن الله جل وعلا أنزل القرآن هكذا: بنفس خصائص الحروف على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا أنقله إليك كما علمه لنا رسول الله. وتبدأ الأسئلة ليبدأ الشيخ في شرح أجوبتها لتتأكد قضية التواصل مع حبل يقع مبتدؤه بين يدي الله جل وعلا.


وعندما يتثبت حفظ القرآن لدى التلميذ وينتقل إلى مرحلة دراسة علوم الشرع يبدأ في توسيع نطاق تساؤلاته؛ وتبدأ دوائر الإجابة في الاتساع مؤكدة نفس المعنى. فسؤال التلميذ في الفقه عن سبب اختلاف الركعات في الصلاة تكون الإجابة بان الله علم الصلاة لنبيه في السماء ليلة الإسراء، وقد وقف النبي على منبره فأدى الصلاة كما علمها إياها ربه أمامنا فنقلناها عنه لأنه أمرنا أن نصلي كما رأيناه يصلي. وعندما يسأل في التفسير عن سبب تفسير آية معينة على نحو معين أو في إطار معين يكون جواب مشايخه حاضرا حول التفسير بالمأثور المنقول عن علماء الصحابة إلى السلف موصولا بشرح الرسول له.. وهكذا تترى حلقة تواصل التلاميذ والطلاب مع مشايخهم في إطار تلقي علوم الشريعة مبتدأة بالتلقي ثم السؤال حول سبب التلقي على هذا النحو وتكون الإجابة متمثلة في حبل الله الموصول مع هذه الأمة وصولا لا ينقطع إلا بأمر الله، مبدؤه في المجتمع اليوم هو المشايخ والعلماء ومنتهاه هم الطلبة والمريدون، كل يتقوى بالآخر، والمنتصر هو دين الله.



التلقي ثقافة متكاملة وليست عارضا


إن مبدأ تلقي العلوم الشرعية بهذه الصورة لا يمكن النظر إليه نظرة عارضة، بل هو حالة ثقافية عامة لا يمكن خلعها من سياقها الإسلامي، ولا يمكن تصور استمرار الحضارة الإسلامية بدونها. فهي ليست بدعا من الدين، بل هي من صلب الدين، بل هي من أبرز خصائص الدين التي ما إن تخلينا عنها حتى عاود الضعف أمة العرب فأضحت بعض بلدانها تقتل فيما بينها تماما كما كانت الحرب بين قبائل العرب الأولين ذوي البأس الشديد فيما بينهم.


ولينظر القارئ الكريم إلى حال الأمة الإسلامية اليوم، وسيجد أنها أمة واهنة مقارنة ببعض الأمم غيرها لا لسبب إلا لأنها هجرت دينها لفترة طويلة، أو أنها مارسته ممارسة استظهار لا ممارسة افتقار.


البعض يرى أن الأمة كانت تمارس الدين ممارسة طقوسية ظاهرية خلو من الروح الحقيقية، وأن هذا هو سبب ضعفها ووهنها. ويرون أن احد أهم المآخذ على العلمانية أنها جعلت المسلم ينظر لنفسه ولحضارته ولتاريخه ولدينه نظرة المتهم، وجعلته يشعر أن الدين هو المسؤول عن حالة التخلف التي وصل إليها المجتمع والدولة الإسلاميين. وكانت هذه بداية الضربة القوية لمبدأ التلقي. ففقدان الثقة في الدين جعل الناس ينصرفون عن تعليم أولادهم أمور دينهم التي ينبغي تحصيلها عبر مبدأ التلقي.


والتلقي بهذا المعنى ليس ظاهرة نخبوية ولا طبقية، بل هو لكل جمهور المسلمين، الغني منهم والفقير. فالغني يحصل العلم بما له من مال، والفقير على مر عصور الحضارة الإسلامية توفرت الأوقاف والهبات التي كانت تتغيا توفير الإمكانيات للطلبة ليحصلوا العلوم، وكانت الأمة حية وحيية ومزدهرة بازدهار هذا المبدأ، ووهنت بوهنه.


والتلقي بهذا المعنى لا يستهدف خلق إمعات مسلوبي الإرادة أمام مشايخهم. بل هو وسيلة لبناء الشخصية وإكسابها المهارات التي رأى الشرع توفيرها للأمة عبر أوامر الأصول ونواهيها. ونظرة سريعة على حياة أئمة الفقه الإسلامي سيجد القارئ معها فيما بينهم من كان تلميذا لغيره من الأئمة الأجلاء المعروفين، لكن التلميذ تفوق على أستاذه، أو على الأقل كان له رأي آخر حيال موضوع علمه، فوافقه حينا واختلف معه حينا آخر، وهكذا نشأت المذاهب الفقهية المختلفة بانبثاق مذهب جديد لقراءته نفس الأصول ولكن بمنهج مختلف أو بوسيلة مختلفة أو بتغيير الأوزان النسبية لمكونات المنهج الأصولي. فكثير من الأئمة لم يقدسوا عمل أهل المدينة الذي كان يجله الإمام مالك. وغالب الأئمة كانوا يتحفظون على منهج أبي حنيفة في الاستحسان، وكان الإمام ابن حنبل مختلفا مع هؤلاء برغم انه تعلم على يد بعضهم وعاصر البعض الآخر.. إلخ. كلهم شربوا من معين واحد ولم يمنع هذا احدهما من أن يكون مستقلا في رؤيته وطرحه، مقدرا لمن سبقه جهدهم، مختلفا عنهم متى رأى في الاختلاف نفع للأمة، ولم يكن أحدهم إمعة.



أشكال حاضرة لمبدأ التلقي لكنها ليست ثقافة


حينما ننظر لرؤية المجتمعات الإسلامية لمبدأ التلقي وعلاقتها به سنجد أن بعض صور هذا المبدأ حاضرة. فقد تجد مؤسسات دينية رسمية تهتم بهذه القضية ومن بينها الأزهر بمؤسساته في مصر. وقد تجد بعض الجمعيات الخيرية تنشئ مقارئ وكتاتيب وزوايا لتحفيظ القرآن الكريم، وتجد بعض المساجد تعلن عن أنشطة صيفية لتوجيه طاقة أبنائنا ويكون من بينها مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم، وقد يكون ثمة مدارس إسلامية في هذا القطر أو ذاك يكون من بين ما تقدمه من قيمة مضافة لتلامذتها وطلابها مقررات إضافية في علوم الشريعة أو حفظ القرآن والسنة عبر كتب تمثل رؤية إدارات هذه المدارس لأولويات ما يجب على التلميذ أن يتعلمه من دينه.


وبالرغم مما سبق من مظاهر مبدأ التلقي لا يمكن القطع بأن هذا الحضور وهذه المظاهر تعبر عن ثقافة عامة في المجتمعات العربية، ولعل هذا هو سبب كتابتي لهذا المقال لكي أحث المربين والمشايخ والمفكرين والباحثين على استيعاب مبدأ التلقي من هذه الزاوية، زاوية أنه علاقة بين الأمة وربها وليست مجرد تلقين لعلوم الشريعة وأصولها.


أنا أأسف لأن نسبة ليست باليسيرة من خريجو الجامعات الدينية العربية والإسلامية لا يعون أنهم يحملون بين جنباتهم حبلا موصولا بالله، بل مجرد علوم تلقوها؛ وربما تلقوها عن غير رغبة منهم. بل إن بعض مشايخ هذه الجامعات لا يتصرف بما يمليه جلال كونه حلقة في سلسلة هذا الحبل الموصول أوله برحاب الله، وتشيع عن أخلاقهم وافتقادهم لألوان المروءات ما يجعلهم يسقطون في نظر من يتعامل معهم. ففقدان الوعي بقيمة التلقي يحول عملية تحفيظ القرآن إلى مجرد تلقين خلو من روح التلقي الحقيقية.


كما أن كثيرين ممن يقومون بالتعليم في هذه الصور المؤسسية التي تمارس جانبا من التلقي ربما هم لم يمارسوا التلقي في تحصيل القرآن أو علوم الشرع، بل أغلبهم صُحُفيين مصحفيِّين كل مؤهلاتهم للتعرض للموقف إلقاء العلوم وتحفيظ القرآن أنهم تلقوا مؤهلا تربويا وحسب. وليست هكذا فلسفة التلقي؛ ولهذا تحول التلقي على أيديهم إلى تلقين حقيقي، لا يكاد يربطه بالتلقي رابط؛ حيث لا يعلم المدرس التجويد وبالتالي لا يمكنه تلقينه ولا يمكنه حمل روح التلقي لتلاميذه.


إن التلقي كثقافة يختلف عما يمارس الآن في المدارس الإسلامية والكتاتيب. كما أننا لو نظرنا لمجتمعاتنا ونظرها لقضية التلقي نجد أن الوعي بحضور قيمة التلقي بأبعادها الروحية غير حاضر؛ وإن حضر فبنسبة ضئيلة تنقصها الروح. أنا أطرح على المعنيين بالثقافة الإسلامية وشؤون الدعوة مبدأ ومفهوما لو بحثوه ونشروه وحرصوا على حضوره في حياة مجتمعاتهم فإن شأن الثقافة الإسلامية سيتغير للأفضل بإذن الله.

تعليقات