التعددية.. الواقع الكوني والنهج الإسلامي


يقع المفكر المسلم بين إرهابين حينما يفكر في ضرورة ترقية العقل العام المسلم للخروج من دائرة تشويه ثقافته العامة حيال قضية التعددية وضرورة قبولها. الإرهاب الأول علماني المصدر يتمثل في ذلك الاتجاه العلماني الفرعي الذي يصر على اعتبار أن الإسلام بنية أحادية ثقافية مغلقة دون استيعاب حقيقة التعدد على صعيدي الفكر والسياسة بسبب جذره التوحيدي. أما الإرهاب الثاني فيأتي من قبالة شريحة من المفكرين الإسلاميين الذين يرون أن القيام بدور تصحيح الحالة الثقافية العامة وتنقيتها من الشوائب الفكرية التي تجذرت في وعيها عبر الإلحاح المخطئ من قبل بعض التيارات الإسلامية اليمينية؛ هذا التصحيح لديهم هو خطاب اعتذاري إلحاقي ينسلخ من أطر الإسلام الحقيقية التي تحدد خصائص المجال العام للحياة من دون تفاصيل ليحاول اللحاق بعار الحداثة الإسلامية التي لا يرونها إلا محاولة لطلاء الإسلام بقشرة سطحية من اللون الغربي. يتناسون أن التعددية هي أصل إسلامي بحكم عقيدة الإسلام لا بحكم اجتهاد المجتهدين.


تشويه ثقافي بحاجة لمواجهة قوية


يقع الفريق العلماني الذي يرهبنا أولا في مغالطة مزدوجة يرتكب فيها ما يعيبه على الحالة الإسلامية. فهو يرى فيما يسميه الموروث الإسلامي حالة ترفض التعددية، ويقع ضمنا في مغالطتين فرعيتين. إذ يقصر رفض التعددية على دين الإسلام وكل ما صدر عنه من اجتهادات. وهنا نجد هنا مقامين للرد؛ أولهما أن الاتجاه العلماني تجاهل أن الفكر الديمقراطي يستبعد أيضا ويقوم بالإقصاء، وما تجارب المكارثية ورفض الفاشية والنازية إلا مثال بسيط. وأمامنا قضيتا الهولوكوست ومعاداة السامية كمثال حي. فقضية المحرقة والخاصة بإدعاءات اليهود بأنهم تعرضوا لمحرقة الهولوكوست في ألمانيا حيث تم تصفية ملايين منهم، نجد معها أن أي كاتب حاول أن ينكر هذه المحرقة أو أن يقلل من الأعداد التي أبيدت يتعرض للمحاكمة والحبس. وكذلك الحال فيما يسمى بمعاداة السامية؛ حيث يتم محاكمة أي شخص يهاجم اليهود أو ما تقوم به دولة الكيان الصهيوني من الانتهاكات ضد حقوق الإنسان الفلسطيني.

وثاني مقامي الرد أن الإرهاب العلماني ذاته لا يميز درجات التعددية في الفكر الإسلامي، ويقصر المحاسبة على خبرات اليمين الإسلامي الذي قام بتضخيم مفاهيم عقدية أدت لتشويه منظور الإسلام للآخر، بالرغم من أن تضخيم المفاهيم العقدية هذا لم يتم إلا تحت ضغوط سياسية وثقافية حادة وإقصائية مارسها الفريق العلماني في مطلع تجربة ما أسموه بالتنوير العربي.

ونؤكد هنا على أن شريحة واسعة من الحالة العلمانية في فجر التنوير العربي خرجت من عباءة الفكر الإصلاحي التجديدي الذي كانت مدرسة الإمام محمد عبده ترتاده إلى مساحات الهجوم على الإسلام والذي بلغ حد الفحش والبذاءة في لسانية التعاطي معه، وحد العبودية للفكر الغربي، حتى يتحدث البعض عن ضرورة تقليد الغرب حتى في قذى أمعائه. وكانت الحركة الاجتهادية المدافعة عن الإسلام مضطرة للتطرف يمينا حتى تتمكن من مواجهة هذا السيل من الهجوم المتحالف مع الدولة لإقصاء الثقافة، وهو ما أضر بالمشروعات النهضوية العربية ضررا لا زلنا حتى اللحظة نعاني تداعياته. وهذا لا يعفينا من الإشارة لوجود اتجاهات تجديدية علمانية احترمت الخلفية الثقافية الإسلامية للشعوب وسعت لتطويرها والتعامل معها في إطار منجزات العقل المعاصر، بصرف النظر عن تقييم بعض الإسلاميين لعموم مثل هذه المناهج.

أما محاولات الاقتراب الإبيستمولوجي للفريق العلماني من الظاهرة الإسلامية فقد وقفت عند حدود مماهاة فلسفية ساذجة بين مفهومي التوحيد والواحدية؛ وغفلت تماما عن الدلالة الإبيستمولوجية الأولى لمفهوم التوحيد أن هذا المفهوم في بنيته يقتضي ضمنا إسباغ التعددية على كل ما دون الله، وهو رأي جمال البنا. ويقول الطيب تيزيني في هذا الصدد أن "كثيرا من المستشرقين والمفكرين والمثقفين العرب جنحوا إلى القول بأنه الإسلام "دين التوحيد" وهذا أقصى ما يُعرف به ويعرَّف؛ مما يفضي إلى القول بأن مفهوم الحقيقة عنده إن هو إلا تجسيد لتوحيديته، وعلى هذا يصبح محالاً أن ينظر إلى تلك الحقيقة وفق التاريخ الإنساني وشروطه ومقتضياته، لتظل متأبية على هذا التاريخ، ومن ثم ليظهر ما يبدو حقيقاً واقعياً من حيث هو وهم زائف". فلو نظرنا حقا لهذا الطرح المماهي بين التوحيد والواحدية في إطار مفهوم الاجتهاد فلا نكاد نجده صحيحا.

وأما الفريق الثاني: الإسلامي؛ الذي يرهبنا فقد وضع أمامنا عائق يتمثل في تمييزه بين التعدد والتعددية موضحا أن التعددية نظام اجتماعي غربي، وهي تختلف عن مفهوم التعدد الذي هو سنة الله تعالى في خلقه، محاولة أن تضعنا أمام صورة أكثر بهتانا للرؤية الإسلامية التي تحدد حدود رؤية الإسلام للعمل العام، وكأننا نعود خطوات للوراء بدلا من التقدم خطوة للأمام في محاولة معالجة أخطاء فكر خاض المشروع الاجتهادي الإسلامي العربي بفكر الحرب التي كان يواجهها مع الحالة العلمانية التي تنكرت تماما للرؤى الإسلامية الوسطية وعبأت الفكر الإسلامي في وعاء واحد وشرعت تدوسه بأقدامها دون اعتبار لتداعيات إدارة مثل هذا الصراع على الأمة وعلى إمكانية تعبئتها في مشروعات قومية لنهضة حقيقية، مهملة في ذلك قراءة الخبرات المعاصرة الأخرى كالخبرة اليابانية.. إلخ، والتي تصالحت مع تراثها وخطت خطوات واسعة في مشروع نهضتها بالاعتماد على إحياء ذاتها القومية في ثوب معاصر اقتصاديا وثقافيا وسياسيا أيضا؛ وإن اعتمدت على استيراد فلسفات غربية لم تجد صعوبة في استيعابها ثقافيا.

ولعل توضيح جمهور هذه الورقة يجعل من مساحة قبولها مسألة اتفاق بين فرقاء أمتنا. فجمهورها هو عموم القادرين على حمل رسالة التعددية للعوام ومثقفي الدرجة الثانية من قادة الرأي والأئمة والخطباء؛ ليعلموا أن دين الإسلام لا يمنع من وجود تعددية حقيقية وقوية طالما أن ثوابت الشرع محترمة ومصانة وغير معرضة للتدنيس. وإن كنت أرى أن الحريات المتعلقة بالرأي يجب أن تكون مطلقة؛ ليقول وليكتب كل صاحب فكر ما يراه وليستمع إليه من يشاء في إطار العرض والطلب على الأفكار، ولينشط في الدعوة والتربية الثقافيين من ينشط، ولا يلومنَّ المقصر في مجال المنافحة عن فكره إلا نفسه.

ولا أظن أن الفريقين المعارضين: العلماني والإسلامي يعارض حين نرغب في تبصير الناس بضرورة التعددية ومقصديتها الشرعية.


الإسلام والتعددية.. حقيقة لابد من اعتيادها


إن الاختلاف والتنوع سنة من سنن الله في الكون كما أنه سنة بين البشر. وقد دلت على ذلك نصوص القرآن قاطعة الدلالة في قوله تعالي: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات: 13). كما اعتبر القرآن الكريم أن اختلاف الألسنة والألوان بين الناس آية من آيات الله عز وجل، يقول تعالى: " وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّلْعَالَمِين" (الروم: 22). فالكون قائم على هذه المتضادات: الليل والنهار، الشمس والقمر، البرودة والسخونة، الخير والشر. وليس معنى هذا أن التنوع لا بد أن يكون بين شيء إيجابي وبين آخر سلبي. ويوضح الأستاذ جمال سلطان في كتابه فقه الخلاف ذلك التنوع والتعدد في الأزهار والحيوان قبل التعدد في اللغات والأجناس البشرية مدللا على سنة التعدد. ويشايعه الرأي في هذا الأستاذ جمال البنا الذي أكد أن القرآن استبعد أن يكون الناس أمة واحدة ينظمهم اتفاق ورأى إنهم مختلفون، وسيظلون مختلفين تميز بعضهم عن بعض ألوان البشرة ولغة اللسان والعقائد والانتماءات، مما يدل على مساحة واسعة للاختلاف وبالتالي التعددية.

ولو جئنا لمساحة التعددية على صعيد نظر الإسلام للأديان لوجدنا أن الإسلام ربما يكون الدين الوحيد الذي عرفته البشرية ويعمل على تحقيق معنى التعددية الدينية، في حين أن الأديان الأخرى لم تكن تعرف أي تسامح مع المختلفين دينيا. وتاريخ أوروبا والصراعات المريرة بين الكاثوليك والبروتستانت خير شاهد على هذا الحادث. ويرى د. كمال حبيب أن الإسلام أول دين في تاريخ العالم كله والأديان السابقة عليه لا يقر مقولة إن "الناس على دين ملوكهم". فإبان الحضارات الرومانية أو اليونانية أو المسيحية وحتى الوثنية قبلها كان المبدأ الثابت لها أن الناس على دين ملوكهم بمعنى أن أي مواطن مثلا موجود في رومانيا كان هو المواطن الذي على دين الملك أما إذا خالف دين الملك لا يكون مواطنا ويسمونهHOST ، ومعناها والذي لا يزال في اللغة الإنجليزية العدو أو الآخر.
فالإسلام حين جاء مثَّل فاتحة جديدة في التعددية والاعتراف بالآخر. فقبل لأول مرة في التاريخ الإنساني الذين لا يدينون بدينه كمواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات. ولا يوجد أي كتاب في الفقه الإسلامي إلا وفيه باب عن تنظيم أوضاع غير المسلمين من أهل الكتاب أو أهل الذمة وحتى الوثنيين من أهل البلاد المفتوحة مثل الهند. كما أن وثيقة المدينة النبوية التي صاغها الرسول صلى الله عليه وسلم لتنظيم الحياة في المدينة مثلت فتحا جديدا في تأسيس العلاقات بين المسلمين وغيرهم على اعتبار أن غير المسلمين مواطنون وقد اعترف بهم كأمة.

فلأول مرة في تاريخ البشرية نجد إقرارا بمستويين مختلفين من العلاقات داخل الجماعة السياسية، المستوى الأول قائم على أساس 'COMUNITY' وهي تشير إلى فكرة وحدة العقيدة، والمستوى الثاني 'OCITY' والتي تشير إلى فكرة المصلحة والعيش المشترك بين المسلمين وغيرهم داخل جماعة سياسية واحدة، وهي فكرة حديثة والغرب لم يعرفها إلا مؤخرا.

لقد قامت الحضارة الغربية في أحد جذورها على فكرة الكاثوليكية التي تعني المذهب الشامل أو الكلي الذي كان يرفض الاعتراف بالآخر حتى لو كان مسيحيا كالبروتستانتية التي ظهرت كمذهب احتجاجي، وكانت نتيجة ظهوره اندلاع معارك وسفك دماء يخصص لها 'ول ديورانت' في موسوعته: قصة الحضارة فصولا كاملة، ولم تأت فكرة الاعتراف الكاثوليكي بالبروتستانت إلا في المناطق المتاخمة للدولة العثمانية، حيث كانت الدولة العثمانية والمناطق المجاورة لها ملاذا آمنا للمضطهدين من محاكم التفتيش الأوروبية سواء في أسبانيا أو مناطق الغال وغيرها، وقد فعل الكاثوليك ذلك حتى لا يتحالف البروتستانت مع الدولة العثمانية. فالتعددية الدينية في الغرب إذن جاءت في إطار الصراع مع الدولة العثمانية حيث يذهب إلى تلك النتيجة كمال حبيب.

إن محاولة بعض الإسلاميين التمييز بين التعدد كمفهوم كوني والتعددية كمنجز حضاري غربي تقف أمام النموذج العثماني – كمثال – موقفا حائرا. فنحن هنا أمام حالة منجز تعددية إسلامي حقيقي وليس مفهوم تعدد. ولعل هؤلاء الإسلاميين يعنون بالتعددية تلك التعددية الغربية النظمية السياسية المرتبطة عمليا بتعدد المؤسسات الحزبية كأحد صور إدارة الحياة السياسية العامة. وقد طرحت الأستاذة هبة رؤوف عزت الخبرة النقابية كمثال لممارسة الحركة في المجال العام باعتبارها وسيلة أكفأ للتعبير عن المصالح، وباعتبارها تتجانس مع فكرة الانتشار المؤسسي التي يتسم بها النظام السياسي الشوري في الإسلام، الذي يتأسس على مشاركة الأمة في صنع القرار أيًّا كانت طبيعته. وكلا الرؤيتين معتبر من منظور التعددية؛ إن نظرا أو عملا، مع ميلنا لقبول مقولات برتران بادي حول استيراد الأبنية والمؤسسات السياسية، خاصة وأن الخبرة النقابية لا ترتبط بالضرورة بخلاف أيديولوجي حاد كالخبرة الحزبية، ولكن هذا لا يقدح في أهمية التعددية على صعيدي الثقافة والسياسة، وإن ارتبطت بظاهرة السلطة.

وبين هذين الطرحين تقف التعددية كسنة إلهية في عموم الفضاء الكوني والاجتماعي – سواء في المجتمعات العربية أو الإسلامية، لتنظم الحياة بدءا من رأس الهرم السياسي والاجتماعي وحتى منتهى القاعدة الجماهيرية. ولا أجد مبررا لاتهام الرؤية الداعمة للتعددية بالالتصاق بمساحة قمة الهرم الاجتماعي السياسي، فلم يكن هذا التصور حاكما يوما لمقولات المفهوم، ولم ترتبط الظاهرة تاريخيا بالنزعة الحزبية الغربية، إذ هي وفق المنطقين الإبيستمولوجي والاجتماعي فكرة مرتبطة بالوجود الإنساني وعلاقته بما هو متجاوز له ميتافيزيقيا؛ ونعني به الله الحي القيوم. ناهيك عن أن فكرة النقابية كآلية لتجميع المصالح فكرة ترتبط بحمل تلك المصالح للسلطة وإن لم يكن لغرض ممارسة السلطة فعلى الأقل لغرض التخصيص السلطوي للقيم.


حضور التعددية في المجال العام


أن التعددية من المدخل المعرفي – كما يراها أحمد عرار - قضية يمكن التعامل معها بعد التسليم بعدم أحقية أي إنسان أو جماعة بشرية في ادعاء امتلاك الحقيقة الكاملة، حتى لو اعتقد أو اعتقدت في قرارة نفسها امتلاكها فعلا، لأن الحقيقة – كما هي في ذاتها – والعلم الشامل لا يحيط به إلا من أحاط بكل شيئ علما وهو الله تبارك تعالى. أما البشر فهم المخاطبون بقوله تعالى: "وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً" (الإسراء: 85). ويقين الإنسان بامتلاك حقيقة ما لا يعطيه الحق بإعلان ذلك ورفض الحوار حوله، ولا بمحاولة فرض ذلك على الآخرين، ولذلك أمر رسول الله ص بمخاطبة مخالفيه من مشركين وغيرهم بقوله: "قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ" (سبأ: 24). فمع يقين رسول الله بأنه على الحق في اعتقاده أن الرزاق هو الله، ومع أمر الله تعالى له بالإعلان عن هذا الإيمان، لكنه في دعوته للآخرين أُمر باستعمال صيغة الشك والتخيير التي أشرنا إليها.

وهذه الآية تكمل في فهمنا قوله تعالى: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" (البقرة: 256) فيما يتعلق بالتعددية على المستوى الديني أو العقدي، وضرورة ضبط هذه التعددية باحترامها عبر الأمر بعدم الإكراه في الدين. أما فيما يتعلق بحياة العامة فيمكن الإحالة فيها لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" (رواه مسلم عن أنس وعائشة)، طالما أن مقاصد الشريعة محفوظة بمراتبها الممكنة في إطار الظروف المختلفة للمجتمعات.

وترى شريحة من الإسلاميين أن التعددية تضمن للجماعة الإسلامية - على المستوى المقاصدي - تحقيق عدد معتبر من المصالح الحقيقية للأمة، ومنها إتاحة الفرصة لإيجاد التوافق بين الرؤى المتفاوتة والاجتهادات المتباينة ضمن الدائرة الإسلامية، كما تسهم في إثراء الفكر وأساليب الأداء، فضلا عن أنها تعالج مشكلات الاختلاف في الرأي والاجتهاد، من خلال آليات اجتهادية لممارسة التشاور بين ممثلي الرؤى المختلفة، كما أن التعددية تجنب الأمة احتمالات الاستبداد، وما يمكن أن يترتب عليه من مفسدة، وتجنب الأمة الصراعات الحادة وآثارها السلبية، وتمنح الفرصة لتيار أو جماعة أخرى عندما يعجز غيرها عن حل مشاكل البلاد أو تحقيق طموحات الجمهور أو عندما لا يفي بالوعود التي قطعها على نفسه، وهي بهذا تجعل الطرف المقصر يعيد النظر في أدائه وتوفر فرصا دائمة للمراجعة والتجديد. ولهذا ارتبطت التعددية دوما في الرؤية الإسلامية بعمليات حياتية حيوية في الحياة العامة المسلمة كالشورى والإفتاء والاجتهاد العلمي الفقهي والفلسفي والكلامي.

وختاما.. فلا شك في أن واقع التعددية يمر بأزمة على مستوى الإدراك والممارسة والمؤسسية، ولكن مرد هذه الأزمة للتيارات الوطنية المختلفة. ولا أذكر أن دعوة للحوار الوطني خرجت من جانب فصائل السياسة في المجتمع. كل الدعوات تخرج من السلطة. ولا أذكر أن محفلا من القوى الوطنية خرج ببيان عام يعلن عن ميلاد حالة تعاقدية وطنية جديدة تحدد أولويات العمل الوطني وآليات بنائها. الحق أن القوى السياسية عندنا لا مفهوم للوطن لديها خارج دائرة الفصائلية. فالفصائلية عند قوانا السياسية والثقافية هي عين الوطنية، وهذا أعلى مراتب النفي والإقصاء.

تعليقات