تغييب الشريعة وتهوين الفتوى.. الفقهاء بعد العلمانيون


جد لا هزل ما نخوض فيه الآن. شريحة من الفقهاء يتسببون في تآكل مرجعية الشريعة وتعزيز حالة الاستهانة بالفتوى برغم ثقل علمهم في كثير من الأحيان. وبرغم رفعة مكانة علمائنا قاطبة؛ إلا أن الشهادة التي كلفنا الله جل وعلا بها، والحسبة التي ألزمنا احتذاءها تقتضيان الوقوف مع فقهائنا وقفة حق؛ لنحاسبهم متى كان الحساب واجبا؛ ونردهم متى كان الرد فريضة. وما من فئة في أمتنا معصومة ولو كانت لحومها مسمومة.

قديمة أخذت الحركة الإسلامية على عاتقها مكافحة تلك الجهود الرامية لإقصاء شرعة الله وطمس ثقافة الأمة، وكانت الفئة المستهدفة بالمراجعة هم المفكرون المستغربون المتنكرون لثقافتنا بغير وجه حق من مراجعة صادقة متزنة أو تمحيص عقلاني وئيد. أما اليوم فصار فقهاؤنا مصدر الخطر الحقيقي لتغريب الشريعة من باب تهوين الفتوى.

لم نكد نفرغ من حالة فتاوى الإثارة التي ابتدعتها مجددا بعض القنوات الفضائية كفتوى غشاء البكارة وترقيعه أو فتوى إرضاع الكبير، حتى وجدنا فتاوى التوافه مثل فتوى قتل ميكي ماوس، ولم نزل خلال هذه المحن نعاني من خضوع شريحة من الفقهاء للساسة وربما الأثرياء ينتجون لهم الفتاوى الملائمة لأغراض هي عن المصالح الحقيقية للأمة ببعيد، وربما كانت في أصولها تخالف الشريعة؛ وأمثلة ذلك كثرة تثير الاكتئاب في نفس الحر.


From Israeli Buchery in Gaza
فتوى التظاهر وفتوى قتل الإسرائيلي

وبينما نكابد هذه الحالات المهينة للفتوى يخرج علينا عالم جليل نعلم علمه وفضله: فضيلة الشيخ صالح اللحيدان؛ رئيس مجلس القضاء الأعلى في السعودية، خلال محاضرة ألقاها بعنوان "أثر العقيدة في محاربة الإرهاب والانحراف الفكري"، بقوله إن "المظاهرات التي شهدها الشارع العربي ضد غارات إسرائيل على غزة من قبيل "الفساد في الأرض، وليست من الصلاح والإصلاح". وقد استند الشيخ صالح اللحيدان في فتواه هذه إلى عدة اعتبارات؛ أبرزها: أن المظاهرات "تصد عن ذكر الله، حتى وإن لم يحصل فيها تخريب". وأن أول مظاهرة شهدها الإسلام في عهد الصحابي الجليل عثمان بن عفان "كانت شرا وبلاء على الأمة الإسلامية". وأن التظاهرات هي "استنكار غوغائي، إذ إن علماء النفس وصفوا جمهور المظاهرات بمن لا عقل له". وأن المتظاهرين "ربما اضطروا إلى أن يحصل منهم عمل تخريبي لم يقصدوه".


والحقيقة أن فضيلة الشيخ ربما شعر بتسرعه فأراد موازنة التصريحات فشدد رئيس على أهمية الدعاء للفلسطينيين والقنوت في المساجد. وأشار إلى أن الأمة الإسلامية تمر الآن ب"محنة كبيرة وعدوان بلا حياء وبوحشية وهمجية، وسكوت من بعض القادرين على المنع"، واعتبر ذلك نوعا "من التعاون على الإثم والعدوان، مع عجز متناه من الأمة الإسلامية من حيث العمل".

ومن ناحية ثانية؛ أفتى الفقيه والمفكر الإسلامي السعودي الشيخ الدكتور عوض القرني باستهداف المصالح الإسرائيلية في جميع أنحاء العالم، ردا على المجزرة التي ارتكبها الاحتلال ضد قطاع غزة. وصرح بأنه "لن تتحقق معاني أحاديث الجسد الواحد والبنيان المرصوص إلا بهذه التحركات" التي أشار إلى أن من بينها أن يصير (الإسرائيليون) أهدافا، وتسيل دماؤهم كما تسيل دماء إخواننا في فلسطين، ويجب أن يمسهم القرح أكثر مما مس إخواننا من القرح"، وفي تصريحاته الإعلامية صرح بقوله: "هذه فتوى أتحمل مسئوليتها أمام الله تعالى".





From Israeli Buchery in Gaza





الفتاوى المكبلة للأمة.. لصالح من


فتوى الشيخ اللحيدان بقدر ما تعد من قبيل فتاوى الإثارة بقدر ما تثير علامات استفهام متعددة حول دور الإفتاء في تكبيل فعاليات الأمة والحد من قدرتها على التنامي وتجاوز السلبية. وقد أشار فضيلة الشيخ اللحيدان إلى وهن الأمة وضعفها وتقاعسها، وبدلا من أن يقر – كما فعل فضيلة الشيخ سلمان العودة – بالاستصحاب وإباحة كل نشاط لم يحرمه النص، بدلا من هذا شرع يخوف من التظاهر كرمز من رموز الحركة الجماهيرية. وارتكن هذا التخويف لمقدمات فقهية واهية؛ منها أن المتظاهرين قد يسببون أضرارا اقتصادية للجماهير بما أن التظاهرات غوغائية والجماهير لا عقل لها، وأن التظاهرات تلهي عن ذكر الله، وأن التظاهرات ضد سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه قد جرت على الأمة ويلات.


وإذا ما تيقنا من وهن الحجج الثلاثة الأولى، وخطأ الاستدلال بالحجة الرابعة لوجدنا أن فضيلة الشيخ إما أنه تعجل فبرر بما لا يجوز التبرير به، أو أنه ضد الحركة الشعبية وليس التظاهرات وحسب. فلا معنى لصد التظاهرات عن ذكر الله. ولا معنى لأن التظاهرات بلا عقل أو أنها قد تسبب أضرارا. فالتظاهرات منظمة وذات رؤية وهدف، ولا تسبب إضرارا إلا إن تدخلت الأجهزة الأمنية لتزج فيها بمن يفسدها. وأما عن التظاهرات ضد الخليفة الثالث عثمان بن عفان فلا مجال للمقارنة بينها وبين زماننا لا من حيث معطيات الواقع وثقافته؛ ولا من حيث الموضوع وملابساته، ولا من حيث الناس ورؤيتهم والتزامهم.


التظاهرات وسيلة الجماهير للتعبير عن رأيها طالما انعدمت الوسائل الأخرى لمثل هذا التعبير، في إطار وجود أنظمة حاكمة لا تلقي بالا لإرادة شعوبها وآرائهم. ومثل هذه الفتوى في مثل هذا المقام من عالم جليل تهمه مرجعية الشريعة قد تؤدي به إلى تغييب الشريعة عن المجال العام؛ إذ أنه بدلا من أن يؤطر الحركة العامة بآداب العمل في المجال العام إذا به يحظر العمل العام على الجماهير شيئا فشيئا، وتكون النتيجة انعزال الفقه عن المجال العام، وهو ما عبر عنه البعض بتضخم فقه العبادات على حساب الفقه الكلي الضابط للمجال العام. لكن المقام يجب أن يتجاوز بنا الإفتاء ضد التظاهر لصالح الإفتاء لعموم الأمة في قضاياها العامة، أو ما يسمى بالفقه الكلي.






الفقه الكلي.. إطلالة على علاقة الفقه بالمجال العام

الفقه الكلي هو تلك المساحة من الفقه التي لا ترتبط بالعقيدة ولا المعاملات ولا الأحوال الشخصية ولا حتى بفقه العبادات، هي مساحة الفقه الذي ينظم سلوك الفرد في المجال العام. وفي هذا المقام يكون للفتوى دور تعبوي تابع للاجتهادات التي تتناول المجال العام، سواء أكانت هذه الاجتهادات لصالح السلطة مع تغييب الجماهير، أو لصالح كل من الجماهير والسلطة معا.

لا يمكن مع تطور العصر وتلاحق مستجداته وتشابك قضاياه وتعقد موضوعاتها أن نعتمد في استلهام الشريعة في المجال العام على بعض مباحث في كتب الفقه، أو على كتابات فقهاء بعينهم في مجالات معينة. إن الشافعي أفتى في مصر بما لم يفت به في العراق لدواعي تغير المكان، فكيف بنا نعتمد في فقهنا المعاصر على كتب وأدبيات كتبها الفقهاء لزمانهم؛ بنوها على فقه واقعهم، وعكست قراءتهم للأصول في إطار علومهم الاجتهادية البشرية.


إن فقه المجال العام اليوم يجب أن يكون مركبا بقدر تركيب الواقع، ومعقدا بقدر تعقيده. فالقضية الواحدة اليوم نجد فيها أكثر من اجتهاد من العلماء المتخصصين في العلوم الدنيوية؛ وهم أولئك العلماء الذين يمدوننا بفقه الواقع. وفي هذا الإطار وجب على الفقهاء أن يعتمدوا على هؤلاء المتخصصين في إدراكهم لفقه الواقع. فليس من المقبول أن تتكرر فضيحة فتوى فضيلة الشيخ عبد الله بن باز رحمه الله بأن الأرض ليست كروية وأن من يقول بكرويتها يكفر بما ورد في القرآن. وهي فتوى لا يزال المهتمون بشأن الفتوى يحتفظون بنسخة منها مختومة بختم هيئة كبار العلماء.


والحق أن تعدد وجهات النظر في دراسة القضايا المتعلقة بالمجال العام قد يؤدي لاختلاف وجهات نظر الفقهاء في الإدراك. فبعض الفقهاء يطلع على دراسة متحيزة لصالح السلطة السياسية ولا يوسع أفقه لتناول دراسات أخرى؛ فيؤدي إفتاءه إلى دعم المرجعية السلطة السياسية؛ خاصة إذا كانت المنظمة التي يعمل في إطارها تدعمها السلطة بالرواتب والمخصصات المالية. وبعض الفقهاء قد يتأثر بدراسة تنتجها المجموعات المعترضة على رأي الدولة وفكرها، ومن ثم تتأثر فتواها بذلك التحيز المعلوماتي.


وفي النهاية؛ فإن الفقيه هو الذي يحدد قيمة عمله وعلمه وفتواه. بقدر ما إن على المسلم الواعي أن يحدد قيمة علم الفقيه وجهده وفتواه. وكما قلنا من قبل، فليس أحد من أمة محمد معصوما إلا المعصوم عليه الصلاة والسلام. ولكن كيف يحدد الفقيه قيمة علمه واجتهاده بينما نفس الحق ممنوح للفرد المسلم؟ والإجابة عن ذلك ميسورة.


أما عن الفرد المسلم، فقد حرصت حركة الإحياء، ومن بينها حركة الإحياء الوهابي، على تشجيع الفرد المسلم والجماعة المسلمة على عدم الانسياق وراء كل داعية بغير إرادة ووعي، ومنحت هؤلاء القدرة على الحكم على الداعية وعلى الفقيه عبر إمدادهم بمجموعة من علامات الوعي والتمييز والفهم والتدقيق والتحقيق؛ يراجع في إطارها كل فرد مسلم رؤى الفقيه وآراءه في عمومياتها المنهجية (مرجعية الأصول – سلامة العقيدة – البعد عن السلطة وفتنتها – سلوكه في المجال العام.. إلخ). وفي هذا الإطار فإنه لابد من منح الفرد المسلم بعض المعايير التي يحكم بها على جهد الفقيه وفتواه في المجال العام من قبيل (عدم أخذ فتوى تتعلق بالمجال العام من عالم فرد؛ بل من هيئة علمية مستقلة عن هوى السلطة – ضرورة الاطلاع على حيثيات الفتوى من زاوية فقه الواقع واستنادها لآراء خبراء متخصصين موثوقين منوعي التوجه). والباب مفتوح لمن أراد من علمائنا وفقهائنا أن يضع قواعد محددة لإرشاد الجماعة المسلمة لكيفية التثبت من الفتوى.


كما أن الفقيه أيضا يحدد قيمة جهده ودور فتواه في المجال العام. فتخصص الفقيه في مجال محدد صغير واجتهاده في دراسته بعمق، واجتهاده لتحصيل فقه الواقع عبر الاعتماد على مراكز بحوث ودراسات، وتشاور الفقيه مع مجموعة ثقات من الفقهاء والعلماء يتقدم إليهم بمشروع فتواه ليناقشهم فيه، وتقدير الفقيه للظرف السياسي الذي يتحرك فيه وملابساته، وانتماء الفقيه لعموم الأمة ومحافظته على المسافة التي تفصله عن السلطة الحاكمة، كل تلك الاعتبارات تثمِّن قيمة جهد الفقيه. فلم يعد ثمة عالم أو فقيه يعلم كل شئ ويفتي في كل مجال، ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه أمام الله وأمام الناس. والباب مفتوح لمن أراد من علمائنا وفقهائنا أن يضع قواعد محددة للإفتاء في المجال العام ويتحرك ليبني التوافق حولها.



الفتاوى الأرشيفية أو فتاوى إبراء الذمة


تذكرني فتوى الدكتور عوض القرني بتلك القرارات العامة التي تصدرها الحكومات المختلفة بدون أن تتوقع منها فاعلية حقيقية. وينحو نفس المنحى تلك الفتاوى التي تنادي بأن الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة فيما يتعلق بقضايا العدوان على الأمة.


وتنقسم الفتاوى من وجهة نظر الكاتب إلى نوعين أساسيين من حيث قدرتها التعبوية والحركية أو قدرتها على التحول لسلوك التزام مؤمن. فوفقا لهذا المعيار تنقسم الفتاوى إلى فتاوى أرشيفية وفتاوى تشغيلية. وهذا المعيار في التصنيف استلهمته من القرارات الإدارية.


فالقرارات الإدارية التي تتبعها أنظمة الإدارة المختلفة يمكن أن نقسمها إلى قسمين: القسم الأول هو القرارات الأرشيفية؛ وهو نوع من القرارات هدفه إبراء ذمة الإدارة التنفيذية فيما يتعلق بتبليغ توجيهات القيادات المكتبية الأعلى في الهرم الإداري لعموم الموظفين من دون تحديد مسؤوليات موظف معين، كأن يصدر قرار إلى عموم الموظفين بضرورة الاقتصاد في المياه لأن الإسراف فيها إهدار لمورد قومي. وهذا القرار لا يمكن تصور تحديد مسؤولية تنفيذه. ومن ناحية أخرى، نجد أن هناك نوعية من القرارات التي تتضمن تحديد هدفها والمسؤول عن التنفيذ وأجل التنفيذ وإطار التنفيذ من حيث قواعد الثواب والعقاب الوظيفية. وهذا هو ما نسميه القرار التشغيلي الذي تعتمد عليه المؤسسات فعلا لتنفيذ سياساتها.


وكذلك الفتوى. أنا أتصور أن ثمة ضرب من الفتاوى يصدره العالم الشرعي أو الجهة الإفتائية لتبرئة ذمته أمام الله جل وعلا من دون أن تكون هذه الفتوى قابلة للتنفيذ. في حين أن بعض الفتاوى تكون موجهة للإرادات الحرة للأفراد والجماعات بما يعني إمكانية تنفيذها. ففتوى الدكتور عوض القرني لا نتصور تحمس الناس لتنفيذها في إطار تغول دولنا الإسلامية؛ وتعملق أجهزتها الأمنية. ومن يستجيب لهذه الفتوى لابد وأن يكون متجردا لدرجة أنه لا يبالي بما يحيق به وبماله وبأهله الأقربين والأباعد. وقد تستجيب لتلك الفتوى قلة بحسب استعدادهم وتربيتهم، ولكنها ستخلق مستوى جديدا من مستويات المواجهة بين الدولة العربية والمجتمع ربما تستغرق الأمة سنوات أو عقود لتجاوز تداعياتها. إلا أن الأهم من ذلك والمرتبط به في نفس الوقت أن هذه الفتوى لا تناسب عموم الأمة التي يحجم أبناؤها عن المطالبة بإصلاح أحوال معيشتهم التي ارتبطت لدى شرائح منهم بالنزول تحت خط الفقر بدركات بائنة.



بين منظوري الفتوى: الفردي والجماعي


توجه الدكتور عوض القرني بفتواه لأفراد الأمة؛ مخالفا بذلك نهج لعض العلماء بإطلاق فتوى عن فرض الجهاد عينيا على كل مسلم. وهذه خطوة بالغة الأهمية. فالفتاوى التي كانت تنطلق من منظور جماعي، وتتوجه في نهايتها لـ"الإمام" كفتاوى الجهاد الذي لا يجوز إلا بإذن الإمام، هذا النوع من الفتاوى أوهن الأمة وعطل طاقاتها، وكان اللجوء للمنظور الفردي في توجيه الفتوى وفاعليتها أمر حتمي.


أما "منظور القرار الذاتي" فمصطلحٌ يستهدف دعوة الفقيه للنشاط في الدائرة التي يتمتع فيها الفرد المسلم بحرية الحركة، وهو ما ننادي باللجوء إليه والتنادي به بين الفقهاء ومنحه الأولوية من دون هجران لمنظور القرار الجماعي متى تيسرت سبل اللجوء إليه. فالأساس في الفقه أنه متوجه إلى فعل المكلف بغير إكراه ولا قسر ولا غياب وعي، فكيف يتوجه الإفتاء بالفعل إلى مساحة يصعب فيها اعتبار المرء متمتعًا بحرية الاختيار في التصرف.


وقد أشرت من قبل إلى أن الفرد المسلم من خلال الجهاد الاقتصادي - كمثال - قادر على أن يقاطع ما شاء من السلع في أي وقت شاء، وقادر على إسداء العون الاقتصادي لمن يريد وقتما يريد، وقادر على أن يعبئ قدراته الخاصة لتحقيق أهدافه. ولا تملك السلطة حق فرض استهلاك سلعة بعينها عليه، ولا تملك منعه من إدارة أمواله بالطريقة التي يريد، ليتبرع بها حيث يريد، أو يحبسها حيث يريد، أو يستثمرها حيث يريد، إلا لو كانت كل مناحي الحياة محل مصادرة واستلاب كما كانت تشهد بعض دول الجنوب الشمولية قديما، وهذا نموذج حياة لم يعد حاضرا إلا قليلا، فاليوم؛ تراهن كل الأنظمة القمعية على مصادرة الحياة العامة لمصلحتها وترك المساحات الخاصة لأصحابها.


لكن الاعتماد على المنظور الفردي في تقييم فاعلية الفتوى لابد وأن يصحبه توجه لعموم الأمة وتقدير لملكاتها وقدراتها، والظرف التاريخي الذي تحيا في إطاره. إن فتوى الدكتور عوض القرني ربما تفيد في منع الصهاينة من القدوم إلى بلادنا أو التعامل معنا في أقاليم الغرب، لكنها لا تمنعهم من توكيل عملاء لحماية مصالحهم. فما الموقف من هؤلاء الوكلاء؟ وما الموقف من أجهزة الدولة الأمنية إذا ما أصرت على حماية الصهاينة إذا قدموا إلى بلادنا؟ هل ندخل في عملية توليد منظومة فقهية تقول إن من يحميهم مهدر الدم؟ وأن من يتوكل عنهم مهدر الدم؟ وتتوالى التساؤلات لتجعل من هذه الفتوى فتوى تعطيلية أرشيفية لم يبتغ من وراءها فقيهنا الدكتور عوض القرني إلا الاعتذار إلى الله وحسب، لكنه معها ألقى كاهل تفعيل طاقة الأمة عن عاتقه.


ومع هذا، وجب التماس العذر للدكتور عوض القرني. فالقضية أكبر منه. بل إنها أكبر من كل المشتغلين بالفقه الكلي. القضية تحتاج مجمعا علميا يضم متخصصين في العلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعلماء النفس والقانون لتقديم إطار عمل عن تقييم الأزمة وحدود إمكانات الأمة فيها على الصعيد الأهلي والفردي، وبعد ذلك يأتي دور مجموع الفقهاء لاختبار البدائل في ضوء قول الله وقول رسوله. بهذه الكيفية وحدها تكون الفتوى جهد مشكور فاعل يمكنه تحفيز طاقة الأمة. وبدون هذه الكيفية يتسع الرتق بصورة مستمرة بين الفقيه وبين الواقع حتى تصير الشريعة معزولة عن الحياة العامة للأمة المسلمة حتى وإن حاول كل فقيه على حده أن يكافح هذه العزلة.






From Arting Wessam


تعليقات