إعادة تعريف العلمانية.. قراءة في تاريخ النهضة المصرية


كلما نظرت بعين الباحث - لا السياسي المنتمي - لإشكالية المواجهات الإسلامية العلمانية في بلدي، وذلك الاستقطاب الذي استغلته القوى الرافضة للديمقراطية والمعادية لها، ومتتالية صعود وانهيار الحالة الحوارية بين الطرفين، كلما نظرت لهذه الظاهرة أحسست بالمسؤولية المشتركة لطرفي العلاقة حيال عدم تقدم أوطاننا؛ سواء في ذلك الجانب الإسلامي أو الجانب العلماني.

لكن المسؤولية ليست الجانب الوحيد الذي أريد طرحه هاهنا بل لابد من الإشارة لمراجعات الحالة العلمانية نفسها لنفسها، واضطراب اليقين حول العلمانية كعلاج اجتماعي ناجح؛ سواء في الغرب أو في أوطاننا.

وليست المراجعات أيضا هي منتهى حديثي. حيث أرغب في أن أستفيد من مراجعات مواقف الإسلاميين والعلمانيين في بلداننا بالإضافة لمراجعة الفلاسفة الليبراليين لمفهوم العلمانية في إعادة طرح مفهوم جديد كمدخل لإصلاح الحالة الوطنية.


أولا: مسؤوليات الطرفين عن الإشكال وتراجع الحوار

لا يمكن مناقشة قضية بهذه الدرجة من الأهمية من دون مناقشة المسؤوليات عما آلت إليه أحوال أوطاننا. وفي هذا الإطار نناقش المسؤوليات الجسيمة لكل من الطرفين الإسلامي والعلماني عن هذه الوضعية السياسية المتردية:

أ – المسؤولية العلمانية: في البداية أود الإشارة إلى أن مسؤولية الخطأ بصفة عامة كانت قسمة بين الحالتين العلمانية والإسلامية في مصر، لكن مسؤولية تأسيس الخطأ تقع على عاتق الحالة العلمانية. ونحن هنا لسنا في محل مزايدة أو تبادل اتهامات. فكل طرف كانت له أخطاؤه التاريخية، لكننا بصدد تتبع بعض جذور المشكلة لعل في هذا ما يثري حوار عمليا بصددها.

فالملاحظ أن الآباء المؤسسين لمشروع الإسلامية التجديدية (الطهطاوي – الأفغاني - عبده) كانوا على وعي بأخطار أزمة الانكسار الحضاري وما يمكن أن تؤدي إليه من مغالاة في لغة الخطاب الإسلامي أو في بنيته (باعتبار هذا الخطاب مشروعا اجتهاديا)؛ ولذا كانت أطروحاتهم واضحة في طبيعة الدين وجوهره وأهميته، وكذا حيال القيمة المضافة التي يمكن الاستفادة فيها من الغرب، وكان هذا المدخل مما أسس لتيار وعي يتجاوز الحالة المنغلقة التي كانت تؤسس التجربة الوهابية القادمة من شبه الجزيرة لتوليدها داخل تيار الوعي الوطني والعربي بشكل عام. وفي هذا الإطار تأسس فيما بعد خطاب جماعة الإخوان المسلمين في أواخر العشرينات، وهو الخطاب الذي قبلت مساحة عريضة من أطياف الحالة السياسية والثقافية آنذاك مساحة كبيرة من خطابه؛ وإن كانت قد خشيت من قوته السياسية بسبب القدرة التعبوية العالية لهذه الحركة. ولعل موقف زعيم الأمة المصرية تاريخيا: مصطفى النحاس باشا من ترشيح مؤسس جماعة الإخوان المسلمين ومرشدها الأول الأستاذ حسن البنا نفسه للانتخابات أكبر الأمثلة على هذه الأطروحة، حيث ساوم النحاس البنا على أن يتنازل عن ترشيح نفسه مقابل منحه حرية الدعوة لمنهجه، وهو ما قبله البنا. ويمكن فهم موقف النحاس في أنه يؤيد الخطاب لكنه لا يؤيد حدوث الشقاق في الأمة ما بين البنا وبين رمز وفدي كبير ينافس البنا، ولهذا اختار الحل الذي يحقق له المرادين معا: نشر الفكرة وانسحاب البنا.

كان المفهوم من خطاب حسن البنا أن نصوص الوحي حافلة بمبادئ تتعاطى إيجابيا مع هموم الحالة العلمانية. فالشريعة ترفض تسلط رجال الدين، وترفض وجود كهنوت، فضلا عن أن تسمح بتسلطه السياسي والاجتماعي والاقتصادي، على الأقل في المذهب السني. كما أن الشريعة تسوي بين المسلمين وغير المسلمين في حق الوطن (وثيقة المدينة كأصل من السنة)، وتميز بينهم في حق كل منهم في الاحتكام لشريعتهم. ولعل موقف الدكتور مكرم عبيد من الجماعة كان أيقونة للتفهم الكامل لخطاب الجماعة حيال الحالة القبطية. كما أن التاريخ أثبت طوال مسيرة الدول الإسلامية أن الإسلام لا يضع قيدا ولا حدا على المنهج العلمي في العلوم الطبيعية. كل ما كان من أوجه الخلاف بين طرفي الاستقطاب من جذرية أن الإسلام دين، ومن ثم فسيكون بنيويا ضد إزاحة حضوره من المجال العام.

وكانت آنذاك ثمة خطابات متعددة أبرزها جماعة أنصار السنة التي كانت متأثرة بالطرح الوهابي الذي كانت قيمته الحقيقية تخليص العقيدة مما لحق بها من خرافات، فضلا عن استمرارية الخطابين السلفي (غير الرسمي) والأزهري (شبه الرسمي الذي كان لا يزال يعاني تراجعا). وكان المتوقع أن تلجأ الحركة العلمانية في مصر – كمثال – إلى التيار الوسطي وتتحالف معه، وتكمل معه المسيرة مع الحفاظ على المسافة النسبية بينهما، خاصة وأن ثمة مشروعات وافرة الحظ لتقاطع الخطابين حيال قضايا الوطن آنذاك، فضلا عن قضية مقاومة الاستعمار ومطالب الاستقلال من ناحية ومشكلة الاستبداد من ناحية ثانية، وقضية النهضة من ناحية ثالثة. وكانت الجذرية في طرح البنا تتمثل في أطروحة العودة للخلافة التي يمكن فهمها في إطار دعوة الأفغاني لجامعة إسلامية.

غير أن شريحة من الشباب الذي تتلمذ على يد الشيخ محمد عبده لم يلبث أن اتجه اتجاها قطعيا نحو استيراد مفهوم العلمانية بصيغته المعادية للدين وليس بصيغته المنادية بوجود محايد للدين في علاقته بالدولة، وقام هؤلاء بحمل مفاهيم آباء التوجه الفرنسي في إطاره العربي من زاوية استيراد العلمانية كسلامة موسى وشبلي شميل الذين طالب أحدهم صراحة في أحد كتبه باستيراد كل ما أنتجه الغرب حتى ولو كان قذى أمعائهم. كان من المفهوم إلى حد ما أن يتجه مسيحيو العالم العرب المثقفين هذه الوجهة المعادية للدين، وبخاصة أولئك الذين تربوا ثقافيا داخل المدرسة الفرنسية التي تطور شعارها الثوري الإجرائي لتصبح أيقونته الثقافية: "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس". لكن آباء العلمانية المؤسسين من المسلمين نهجوا نفس المنهج من دون أن يتركوا بقية جسر يمكن معه ردم الفجوة الإسلامية العلمانية لصالح الوطن، ومن دون أن يبذلوا جهدا حقيقيا في محاولة تبيئة المفهوم وتسكينه ضمن تدفق تيار وعينا التاريخي وأولوياته وأجندته. كانت الحداثة لدى هؤلاء تتمثل في القطيعة الكلية عن الواقع ما قبل الحداثي، واعتبرت ذلك بمثابة الرؤية والمنهج الذي لا ند له ولا نظير.

ونشأت المعركة، وتكرست معها الصورة السلبية للمطالب العلمانية التي لا يخلو جلها من وجاهة. وكانت من ثم الخسارة الكبيرة التي خسرها الوطن برهانه على وئام بين المشروعين الحداثي من ناحية والتجديدي الإسلامي من ناحية ثانية.

فباستثناء إقصاء الدين عن الحياة أو المجال العام أو الدولة، كانت جل مطالب الحركة العلمانية وجيهة. فالتسوية المدنية والسياسية بين المنتمين للأديان المختلفة كانت بالغة الأهمية، وبخاصة مع وجود تيار يحاول تحقيق التماسك الإسلامي على حساب تباين العقيدة وتداعياته (جذور وإرهاصات التيارات الإسلامية الراديكالية). كما كان بت الصلة بين الدولة والدين مهما كأطروحة تمنع حدوث تلاعب من الدولة بالدين ولا يصير ثمة شرعية تستفيدها الدولة من الدين. وكانت الحريات قضية مهمة تستحق وقفة تمنع من تردي قضية الحريات في قطاعات من الفكر الإسلامي إلى درجة ما حدث إبان أزمة "وليمة لأعشاب البحر" ومن قبلها أزمة نصر حامد أبو زيد وغيرهما من الأزمات، بحيث نتحدث عن الحريات الخاصة بالرأي والتعبير باعتبارها حريات شخصية، ومن يريد شراء المنتج الفكري العلماني او حتى الملحد فهو حر. فإجابات كل هذه الأسئلة وحلول كل هذه القضايا يحملها الدين في داخله؛ سواء أكان يحملها جلية بادية بنص ظني أو قاطع، أو كان يحملها ضمنا في مقتضيات النصوص. ولم تكن تنتظر سوى أرضية خصبة مواتية لحالة اجتهادية منتمية للوطن ولا تحمل هم الاستقطاب والصراع الذاتي الداخلي. وكانت البقية متروكة للتفاوض الاجتماعي والسياسي الذي كان من المنتظر أن يكون المنهج الحاكم لإدارة خلافاتنا.

كان الإسلام مكونا قويا من مكونات وعي وثقافة الجماهير، قضت الحركة العلمانية جل جهدها واستنفدت جل طاقتها في إقصائه عن المجال العام بدون محاولة الاستفادة من طاقته التعبوية الطوعية لا القسرية. ومن ناحية ثانية؛ بذل الإسلاميون وسعهم في أن ينبهوا الناس إلى أن هذا الإقصاء ليس من الإسلام في شئ، وأن بعض الأطروحات هي أطروحات تبعية وإلحاق. واستفادت نخبة الدولة الحديثة من هذا الخلاف في التثبيت لمكانها، وعمقت حدة الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين، وذلك حتى يتثنى لها التخلص من عملية بناء مجتمع مدني قوي يحد من مشروعها الخاص (مشروع الفساد بطبيعة الحال بمستوياته السياسية والاقتصادية). ولم يجد الطرفان: الإسلامي والعلماني فيما يحدث إلا متعة لا تدانيها متعة، فأمعنوا – كل طرف في خطابه واستقطابه – حتى ظهر خطر التطرف الإسلامي الذي كان مقتنعا بأن ما يصدر عن العلمانيين ليس إلا كفرا بواحا يتضمن قدرا هائلا من الافتراء على الدين.

والإشكال الأكبر أن الحركة العلمانية لم تقم بتنقية ذاتها داخليا، واعتمدت على خطاب بعض الكتاب العلمانيين الذين حملوا خطابا مؤسفا ومسفا، أساء للحالة العلمانية نفسها، وأسهم في تكريس وتعبئة الناس ضدها، وكان من هؤلاء الكاتب فرج فودة الذي نأسف لوقوعه ضحية منهجه الخاطئ وكتاباته التي اطلعت على بعضها وحزنت لكم التدليس والافتراء والكذب الذي لجأ إليه هذا الرجل في تشويه صورة الدين والعلماء لكي يبرر منطقه. كانت الحركة العلمانية تعرف الفارق بين الإسفاف والتدليس وبين الحركة العلمانية المستنيرة. ولا ريب في اتساع البون بين بحث مثل "مفهوم النص" أو كتابات سيد القمني وبين ما كان يكتبه فرج فودة وأمثاله. فكتابات الدكاترة نصر حامد أبو زيد وسيد القمني وحسن حنفي كانت كتابات لها منهجية علمية، ولها مراجع، ويمكن الوقوف على أساسها، والتعاطي معه أو نقده، لكن السباب والتدليس الذي لف شريحة من الكتاب العلمانيين لم يكن ثمة قدرة لإسلامي على التصدي لها. وكان البديل هو اشتعال الحرب التي راح ضحيتها الوطن.

ب – المسؤولية الإسلامية: لكن المسؤولية لا تلقى على الطرف العلماني وحده. لقد سيطرت ذهنية الجهاد في صورته اللسانية (فبلسانه) على عقلية الإسلاميين خلال الفترة من نهاية الأربعينات وحتى منتصف التسعينات من القرن العشرين. وبينما لا يزال حمائم الإسلاميين يحاولون تثبيت قدم المراجعة في الحوار الإسلامي العلماني نجد صقور الحركة، فضلا عن صقور عموم التيارات اليمينية الإسلامية تقف على خط ملغوم تنتظر من يتطوع لإشعاله، وما أكثر المتطوعين المحتملين لإنجاز هذه المهمة؛ من أعداء الإصلاح في الداخل أو أعداء الوطن في الخارج.

ومن ضمن مسؤولية الإسلاميين أنها لم تحاول أن تفرغ عملية الاستقطاب السياسي من محتواها الصراعي باتجاه الوصول لحل فيه مصلحة الوطن. إن تلك العملية الحوارية الوطنية لم يكن لها أن تتم إلا وفق اعتبار أن مفهوم العلمانية مفهوم اجتماعي، يقوم على اجتهاد صاغه مجتمع من المجتمعات لمواجهة أزمته التاريخية، وأن لدينا أزمتنا الخاصة التي يمكن في إطارها كإسلاميين أن نفيد من تجديد المفهوم: مفهوم العلمانية بدلا من التعارك حوله. لم يتصور الإسلاميون هذا المفهوم خارج دائرة الكفر أو الموقف السلبي من الدين (ومعهم حق نسبي بالنظر لمنهج التناول العلماني). وتلك كانت نفس المشكلة التي حكمت مخاوف العلمانيين من احتمالات الاستبداد باسم الدين (ومعهم حق نسبي بسبب خضوع الموقف الإسلامي لرؤية سلفية مسبقة من دون نظر فيما تسمح به الأصول من تجديد). فذهنية القتال التي حكمت الإسلاميين أدت لإلغاء الحساسية حيال المصطلح وحيال ظرفه التاريخي ودلالة نسبية هذا الظرف، ودلالة هذه النسبية في إمكان تجديد المفهوم أو توطينه وتبيئته.

والآن نسأل: لماذا نجد أن بعض المفاهيم يمكن أن تكون محل مراجعة وتقدير لخصوصيتنا في إطارها، بينما بعض المفاهيم والمصطلحات يكون أبعد ما يمكن عن احتمالات المراجعة والتطوير وتقدير اعتبارات الخصوصية فيه. لماذا هذه الانتقائية؟ سيحار الباحثون المدققون في إجابة مثل هذا السؤال وفي البحث عن أسباب تلك الانتقائية المجحفة بالمصالح الوطنية. ولم يمنع هذا التحير من قيام بعض الوطنيين المخلصين بتقديم رؤى تآمرية مفادها أن بعض الحكومات العربية الداخلية والخارجية تتلاعب بالقوى السياسية وصراعاتها الثقافية والسياسية لأجل ضمان استقرارها. بالإضافة إلى سعي بعض الأنظمة لاكتساب شرعية دينية عن طريق جهود تأجيج هذه المواجهات بين العلمانية والإسلام.

ولأن الحالتين الثقافيتين العلمانية والإسلامية في مصر بخاصة وفي العالم العربي بعامة ضد النظرية التآمرية؛ فإن مجموعة من الباحثين قد قاموا بتحويل مقولات نظريات المؤامرة هذه إلى فرضيات يتم اختبارها وفق المنهج العلمي، وثبت بالاختبار التجريبي العلمي أن هذه المقولات صحيحة. بل وقد أثبتت بعض الدراسات أن هذه الدول كانت تتدخل في بعض الأحيان لأجل اعتقال أحد الكوادر الإسلامية حين يصدر عنه بعض المقولات السياسية التي تقول بالتوافق والتحاور والتجديد، وعندما يصدر عنه من محبسه ما ينم عن التشدد كانت الحكومة تقوم بإخلاء سبيله وإطلاق حريته في التنقل والتعامل مع الصحافة (نموذج علي بلحاج في الجزائر وموقفه من مشروع الوئام الوطني). بل إن بعض الدول كانت تستفيد من الخلاف الإسلامي العلماني في كبح جماح القوى التي كانت تدعو إلى التجديد والإصلاح والديمقراطية على اعتبار أن الديمقراطية كفر (ويمكن الوقوف على طبيعة هذا الخطاب بتحليل مضمون صحيفة المسلمون السعودية التي كانت تصدر من لندن في الثمانينات وتوقفت تحت ضغوط عربية وغربية). وقد عشت تلك الفترة التي كان فيها فقهاء هذه الدولة يعتبرون الديمقراطية كفرا بواحا وخروجا سافرا على حاكمية الله كما حددتها آيات سورة المائدة الشريفة التي نرى أن علاقة الديمقراطية بها كانت اجتهادا خاطئا.

لم تقف الحركة الإسلامية هي أيضا وقفتها الصارمة. ولم تحاول كسر حدة العزلة والمواجهة، واستبدالها بعلاقات شخصية بين النخب العلمانية والإسلامية؛ تكسر حدة الاستقطاب، وتكون أكثر قدرة على جعل الحوار منهج حياة، وجعل انفتاح الذهن والقبول الحسن للرأي الآخر في إطار الاستعداد للنظر فيه وليس تلقفه بغرض التمزيق والرد.


اللهم ارحم الدكتور عبد الوهاب المسيري


ثانيا: مراجعات المشهد العلماني.. ودلالاتها


لا يخفى على أحد حركات المراجعة التي تصدر عن قيادات جماعتي تنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية المصريتين حيال موقفهما من منهج العنف في التغيير السياسي. كما لم يخف علينا أن الحركة الإسلامية الوسطية كانت أول الأطراف التي قامت بحركة مراجعة لأدبياتها، وعبر هذه الحركة من المراجعة أقرت كثيرا من أدبياتها السابقة، وعدلت عن شريحة من أفكارها وجعلتها نهبا للمراجعة، ونشرت ما روجع وما أقر في مجموعة من الكتيبات مثل الإخوان في مواقفها من الديمقراطية وقضايا المرأة وقضايا المواطنة والآخر الديني.. إلخ. ولا يخفى كذلك منهج الاستشارة الذي تنهجه الجماعة في تعاملها مع كثير من أطروحتها ومنها الأطروحة الحزبية الأخيرة التي نوهت الجماعة عنها في يونيو 2007، والتي نشرت الصحف حيالها استشارتها لمجموعة من المفكرين حول بنود برنامجها وكان من بينهم المفكر القبطي الدكتور رفيق حبيب.

التوجه العلماني أيضا بدا يعاني أعراض المرض الذي استوجب المراجعة. وحقيقة، أصابني الحزن لأني لم أجد دورة المراجعة تبدأ من مصر. ويحضرني في هذا الصدد قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي مفاده أن المصريين خير أجناد الأرض، ويبدو أن شخصيتنا القومية لا تحفل كثير بالصدمات التي تعقب الصدامات وتصر على التصادم ومزيد تصادم، فهي شخصية تجيد التمترس خلف أية دروع معدنية أو مفاهيمية تساق إلينا من دون محاولة النظر في طبيعة هذه الدروع وخصائصها. ويحضرني في هذا الصدد ما حدث إبان "أزمة الحجاب" التي أعقبت تصريحات وزير الثقافة المصري فاروق حسني في أوائل 2007. فهذه التصريحات أتت في توقيت كانت القوى السياسية فيه قد راكمت قدرا من الحوار ومحاولات استكشاف المصلحة الوطنية الحقيقية، ومحاولة إدراك العدو الحقيقي عدو الديمقراطية والإصلاح وعدو الحريات، واجتمعت القوى السياسية بأكملها ضد مشروعات التوريث وتقييد الصحافة وتلجيم القضاء، وبدا للجميع – ولي بصفة خاصة – أن مصر على وشك أن تبشر بحادث سعيد ناضج النتاج، وفجأة؛ عصفت تداعيات تصريحات وزير الثقافة المصري بتلك الآمال والأحلام، ووجدنا القوى الملتئمة الشمل تتبعثر قواها، وتخور وحدتها، وتتمزق كلمتها، وتتناثر كرامتها، وتضيع هيبة تجمعها وتكتلها، كل ذلك حصل عند أقدام قضية أقل ما كان يمكن للعقلاء أن يقولوه حيالها بأنها حرية شخصية.

وبرغم أن عملية مراجعة الرؤية العلمانية قد بدأت في الغرب مبكرا على أيدي اليسار الجديد، إلا أن بدايات كسر جمود الموقف الفكري حيال العلمانية في عالمنا العربي ما صدر عن العلم الفكري البارز الدكتور عبد الوهاب المسيري من عملية إعادة تعريف للمفهوم وإعادة بناء النموذجين الإدراكي والتفسيري المرتبطان به وبحضوره في الوعي العربي. تجاوز الدكتور ثنائية العلمانية التي هي إما اللاديني Non Religious أو ضد الدين Anti Religious، وأعاد النظر للعلمانية باعتبارها نموذج حياتي يقوم على إحلال القوى المادية والطبيعية محل الإله في نموذجنا الإدراكي للحياة ومنهج تعاملنا معها. وكان طرح الدكتور عبد الوهاب المسيري في نظر الكثيرين متطرفا في تصويره للعلمانية في المجتمع الغربي باعتبارها ضد الإنسان الذي يرونه حاضرا في الأسرة الغربية وفي الصداقة وفي مساحات كثيرة من العمل العام.. إلخ، وهو ما عبر لي عنه الدكتور هيثم مناع حوارنا الثنائي على هامش أحد ورش العمل التي حضرناها سويا في الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان. غير أني أرى أن هذه الراديكالية المسيرية حركت درجة من الوعي النقدي بين مجموعة من المفكرين العرب والمسلمين وغير المسلمين وغير العرب، وأنتجت حالة حوارية خرج منها مجموعة من العلماء والفلاسفة أمثال جون إسبوزيتو وجون كين وعزام التميمي وبيرفيز منصور، وغيرهم كثيرون، برؤية نقدية قوية للحالة العلمانية كان لابد لنا من وقفة معها. وقد نشرت هذه الأطروحات ضمن كتاب مشترك للمفكرين الخمسة؛ تحت عنوان: الإسلام والعلمانية في الشرق الأوسط، وتولى تحريره البروفيسور جون إسبوزيتو.

تقول الأطروحة الأساسية للمساهمات المتعددة في هذا الكتاب أن تيار العلمانية في بلدان الشرق الأوسط، وخاصة الدول العربية، ويعاني انحسارا قويا لصالح تيار الفكر الإسلامي. وللتأسيس لهذه الأطروحة يقدم جون إسبوزيتو، بروفيسور الأديان والعلاقات الدولية في جامعة جورج تاون، استعراضا لوضع العلمانية في الشرق الأوسط في بدايات القرن الواحد والعشرين، يركز فيه على ما يراه تراجعا مستمرا للعلمانية، ليس فقط على مستوى الغالبية العامة عند الناس في المنطقة، بل وأيضا على مستوى النخب. وألمح إسبوزيتو لملاحظته أن النخب العلمانية الحاكمة في أكثر من بلد لم تستطع استيعاب هذا التراجع أو القبول به، وقد أشار إلى أن السبب الأساسي وراء هذا التراجع ما أسماه "العلمانية الأصولية"، التي رأى أن مصدر تهديدها للعمانية كخيار ما تمثل في أنها لم تطرح العلمانية كخيار من الخيارات بل باعتبارها السبيل والخيار الأوحد الذي يجب أن تنهجه المجتمعات العربية والإسلامية.

المشكلة الكبيرة التي كشف المفكرون النقاب عنها في كتاباتهم التي تلت أن النخب العلمانية الحاكمة لا تريد أن تعترف بالتغيرات الاجتماعية والفكرية والسياسية الجذرية التي حدثت ولا تزال تحدث في داخل المجتمعات العربية وخارجها، حيث برزت التيارات الشعبية غير العلمانية وتحديدا الإسلامية، ولم تكن النخب العلمانية ترى وسيلة للتعامل مع هذه التغيرات إلا قطع الطريق عليها وقمعها، وما هذا التحالف المشبوه مع الدولة العربية المستبدة إلا أحد أوجه خيار قمع هذه الحركات الاجتماعية.

والمفارقة الغريبة التي يلتفت إليها البروفيسور إسبوزيتو أن العلمانية في الشرق الأوسط صارت متلازمة مع الدكتاتورية؛ رغم أنها تزعم الحرية والانفتاح والديمقراطية الليبرالية. ويضرب أمثلة على ذلك بتحالف الجيش وأجهزة الأمن مع النخب العلمانية الحاكمة لإحباط التحولات الديمقراطية، سواء فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، أو فوز حزب الرفاه في أكثرية المقاعد البرلمانية في تركيا وتسلم أربكان للوزارة، أو فوز حركة النهضة التونسية بعدد كبير من المقاعد في الانتخابات التونسية التي سبقت حل الحركة وإعلان الحرب عليها، أو لجوء الرئيس المصري للجيش عندما يشعر أن شرعيته وشعبيته في ترد مستمر.

ولم يلبث البروفيسور جون كين، أستاذ العلوم السياسية في جامعة وستمينستر أن طرح سؤالا يراه مثيرا لاستفزاز العلمانيين، وهو فيما إذا كانت العلمانية تحول دون حرية التفكير في الديمقراطية نفسها، وبأنها تحولت إلى دوجما سياسية. وقد صرح جون كين بأن العلمانية تحمل تناقضات داخلية لا يمكن القفز عنها، رغم أنها تناقضات لا تصل إلى حد إسقاط العلمانية من الداخل. أول التناقضين دعوتها إلى حرية العبادة وحرية الاجتماع الديني، الذي يقود في نهاية المطاف، كما هو الحال الراهن، إلى زيادة رقعة الدين، والدعوات الدينية للتدخل في الشأن العام والسياسة باعتبار أن للدين دورا مهما يمكن أن يؤديه في السياسة. ففي الوقت الذي لا تستطيع فيه العلمانية إلا أن تعترف وتسمح بحرية الأديان والممارسة الدينية، فإنها تعترف بتناقض داخلي يعمل على تقويضها، وهي لا تستطيع أن تقف في وجهه لأنها تفقد صفتها الليبرالية الأساسية. وثاني التناقضين يتمثل في ترافق "عدم اليقين الوجودي" مع العلمانية ليحل محل اليقين الديني عند الأفراد، وهذا لا يشبع التطلعات الإنسانية والروحية عند الناس خاصة في عالم مليء بالضغوط والتوترات حيث يحاول الأفراد الوصول إلى سبل السكينة والراحة الخلاصية على المستوى الداخلي لهم، وحيث تبرز أهمية "التضامن الديني".

وأشار كين إلى تناقض داخلي آخر هو تقارب العلمانية مع الدكتاتورية تحت مسميات عديدة. ويضرب مثلا على ذلك تركيا وإلى حد ما فرنسا، ففي الأولى تتحالف العلمانية مع الدكتاتورية العسكرية تحت مسميات حماية الدستور العلماني من تصاعد المد الإسلامي، وفي الثانية تتحالف العلمانية مع ممارسات دكتاتورية مثل منع الحجاب أو التضييق على المسلمين تحت مسمى الاندماج أو محاربة التعددية الثقافية.

أما برفيز منصور، وهو كاتب وباحث إسلامي آسيوي، فقد ساهم في هذا الكتاب بدراسة عميقة تدعو إلى تفكيك "القداسة" عن العلمانية، ونقض الادعاء السائد بأنها موئل الحقيقة والعلم. ودعا إلى ضرورة عدم التعامل مع العلمانية باعتبارها "نظرية كبرى" قادرة على تفسير كل الظواهر، أو جاهزة للتطبيق في كل مكان وزمان. وقد أشار برويز منصور إلى أن من العبث اعتبار كل النقاش العلماني – الإسلامي وكأنه صراع بين قيم الإسلام الإيمانية ومنطلقات الحداثة العقلانية، أو بين رغبة الإسلام للتمكن والنظام العالمي المتمكن، وحاول تقديم طرح إنساني فلسفي آني قوامه أن الصراع بين الإسلام والعلمانية هو صراع بين الإيمان بصورته الإسلامية الذي يجسد ما هو متجاوز والافتراض العلماني الثيوقراطي بأن الحقيقة التامة قد تم الوصول إليها عبر افتراضات العلم التي لم تثبت صحتها بدرجة يقين عالية.

أما الدكتور عبد الوهاب المسيري فقد حدد ملامح العلمانية كمنهج حياة بأنه المنهج الذي تحل فيه المادة/الطبيعة محل الإله في المنظومة الثقافية التي تدير حياة العلماني ومجتمعه، ورأى أن هذه الرؤية بدأت بأيديولوجية مجدت الإنسان ودعت لوضعه وعقله في مركز إدارة المنظومات الاجتماعية والحياتية، ولكن المنظومة طردت الإنسان كقيمة اجتماعية وعقل، وأحلت محله كل القوى المادية التي أدت لمعاداة العلمانية للإنسان في النهاية، ومنها قوى السوق التي حولت الإنسان لمستهلك، وقوى الربح التي حولت الإنسان لسلعة أو شئ يعرض في الواجهات التجارية ويباع ويشترى؛ وهو ما عبر عنه الدكتور المسيري بنحت مصطلحي التسلع أو التشيؤ كدوال لغوية تعبر عن هذه الحالة من حالات الاغتراب نتيجة العلمنة المادية، وهناك أيضا قوى المصنع التي عصفت بالحقوق الأساسية للإنسان سواء أكانت حقوقا اقتصادية أو اجتماعية، وثمة كذلك قوى السياسية التي عصفت مكيافيلليتها بالأخلاق.. إلخ. هذه التجليات أفزعتنا ونحن مع الدكتور عبد الوهاب المسيري في صالونه؛ فأوضح لنا أن هذا هو النموذج، وأن الناس تقاوم ضمنا النموذج العلماني الكامل لأنها تشعر أنه سيسحقها. فماذا تبقى بعد ذلك من مفهوم العلمانية؟!

إن كان لي أن أعلق على هذه الأطروحات فإن تعليقي ينصرف إلى أن هذه الأطروحات قضت على المفهوم كمنتج فلسفي من ناحية، وأجهزت عليه كمفهوم اجتماعي يؤدي وظيفة اجتماعية/سياسية/ثقافية من ناحية ثانية. فهذه المراجعات فرغت مفهوم العلمانية من مضمونه تماما، حتى وإن أصر البروفيسور جون كين على موقفه القاضي بأن تناقضات المفهوم لا تؤدي لتقويضه.

والواقع أن الدكتور عبد العزيز صقر، وهو أحد أبرز الباحثين المهمين الذين درسوا علاقة الدين بالدولة قد أنتج بحوثا ودراسات معمقة ترصد علاقة الدين بالدولة وبالمجال العام في كل من أوروبا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية وآسيا، واختص كل قارة من هذه القارات بكتاب منفصل، وكانت الصيغة التي عبرت بها تلك الكتب عن الظاهرة تتمثل في الحديث عن أنماط علاقات الدين بالمجال العام؛ والخصوصيات الجغرافية التي ميزت الأجنحة القارية عن بعضها؛ وأسباب ذلك، وخلاصة الكتب جميعا إن المؤسسات الدينية لم تخرج يوما من دائرة المجال العام في هذه القارات الأربع، بل لها علاقات وثيقة بشخوص ورموز المجال العام، ولن يكون مفاجأة أن نشير إلى أن الإدارة الأمريكية اليمينية استعانت بأشخاص كانوا ضمن بيروقراطية البيت الأبيض منذ أمد، بما يعني أن إبعاد الدين عن المجال العام كان من وجهة نظر الدكتور عبد العزيز صقر أكذوبة.

هذه الرؤية ترتبط بأطروحة طورتها منذ أمد؛ مفادها أن العلمانية كانت مفهوما أيديولوجيا برر إقصاء الكنيسة عن دائرة القرار الفرنسي في لحظة تاريخية معينة، لكن هذه اللحظة لسبب أو لآخر تمكنت من أن تتحول لمرجعية استعصت على السقوط بالتقادم. ومهما كان ما وصلنا إليه؛ فإن ملامح المشهد الآنية تشي بأن مفهوم العلمانية قد جرى تفريغه من محتواه ومضمونه الفلسفي من ناحية، والتاريخي الاجتماعي الوظيفي من ناحية ثانية. وهو ما استدعى تطوير الاقتراب منه في بيئتنا العربية والإسلامية.


نحو اجتهاد جديد حيال مفهوم العلمانية

إذا كانت شهادة الخبراء والمستشرقين قد أفادت بسوء حالة وضع العلمانية كمفهوم وكوظيفة اجتماعية في عالمنا العربي، من زاوية كونها قد فشلت في التعاطي مع الإسلام كدين له خصائص متمايزة عن خصائص الديانة المسيحية بعامة، ومتمايزة عن الخبرة الأوروبية في أواخر القرن 18 بصفة خاصة، وبما أنها كانت مصدرا لتبرير الاستبداد والالتفاف حول الديمقراطية، وبما أنها تحوي ضمنها التناقضات التي أدت إلى فقدان الثقة بدورها الاجتماعي، وبما أن الاتجاهات الفلسفية الحديثة ترفض التعاطي معها كنظرية شاملة، كل هذه الاعتبارات دعتنا للاحتجاج على تداول المفهوم بصورته الحالية.

لم يكن بدعا أن تثور الحالة التركية في وجه المفهوم الذي أدى لتقويض الإرادة الشعبية التركية، وإن كانت نسبية ثورتها لاحتياجاتها المجتمعية لا يمكن مقارنتها باحتياجات العالم العربي الملحة والمصيرية لفصل الدولة وإبعادها عن الدين. فالحالة التركية تشهد مؤسسات محترمة إلى حد كبير، ولا يجري التلاعب مع هذه المؤسسات إلا في أضيق الحدود، أما في عالمنا العربي فلا توجد مؤسسات قادة على تجاوز حالة الشخصنة السياسية القوية التي تتحدى مؤسسات الدولة؛ كما أنها غير قادة على مواجهة تغول السلطة التنفيذية على حساب مؤسسات الدولة قاطبة، فلا أحكام قضائية يتوفر لها الاحترام الكافي، ولا شخصية تعلو على الفساد واحتمالات الرشوة، ولا جهاز للشرطة يمكن للمواطن الوثوق به بعد أن امتلأت مدونات المدونين العرب بأفلام التعذيب التي تجري وقائعها الحقيقية داخل أقسام الشرطة. ولا يمكن القول بأن إضافة الدين لمعادلة تمارس الدولة فيها هذا القدر من التغول يعد غبنا ليس للمجتمع السياسي أو المدني وحسب، بل غبنا لكل الشعب ولعموم الوطن وعبثا بهما.

لقد عانت المجتمعات العربية من تسلط الدولة على الحريات والسياسة في الوقت الذي تكتسب فيه شرعية دينية عبر بروز النخب الحاكمة في المناسبات الدينية والصلوات الأسبوعية، وكان لقب الرئيس المصري في بعض الأوقات: الرئيس المؤمن، وهي تلك الشرعية التي مرر بها كثير من القرارات التي وصفها المفكر والكاتب القدير أحمد بهاء الدين بأنها انفتاح سداح مداح. وتحصل بعض الأنظمة على الشرعية نتيجة حماية المؤسسات الدينية الرسمية وشبه الرسمية لشرعيتها ولمبررات استمرار نظامها. كما أن القوى السياسية الحقيقية القادرة على تعبئة الشارع العربي خلف مشروعات الإصلاح يجري تدبير المحاكمات المختلفة لها بدون أدلة، فضلا عن أن غالبية هذه المحاكمات تتم وفق إطار من اللجوء لقضاء استثنائي لا تتوفر له الحصانة اللازمة ليقوم شخوصه بالحكم وفق قواعد العدل والإنصاف أو القوانين السائدة، والأدهى والأمر أن الدولة تقوم بالتلاعب في الأطر القانونية لكي لا يتمكن أحد من تعقب القرارات التي تتجاوز في التعدي على الحقوق المدنية للمواطنين. وكان آخر هذه الأطر إيقاظ القانون النائم: قانون الصحافة؛ ومعاقبة الصحافيين في إطاره بتهم واهية واهنة وصلت عقوباتها لحد السجن.

ومن ناحية ثانية كانت الشعوب العربية تشهد تسلط الدولة على المؤسسة الدينية، وكانت الدولة تعمل على توظيف المؤسسة الدينية لصالح إكساب قرارات الحكم شرعية. وقد نقلت الصحافة عن أحد المشايخ وقتها زلة لسان فيما يتعلق باتفاقية كامب ديفيد قال فيها: "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون"، وهذه الآية صفة من صفات الله تعالى؛ ولا شك في أنها كانت زلة، فقائلها عالم جليل تجله كل الأمة. لكن زلة العالم زلة لكل الأمة.

هذه الاعتبارات تدفعنا لمحاولة تقديم دعم الاجتهاد التركي الذي قدمه كتعريف للعلمانية حيث اعتبر أن العلمانية التي يؤمن بها هي تلك العلمانية التي تعني "حياد الدولة حيال المعتقدات". فذلك التعريف يمكن اعتباره بالنسبة لعالمنا العربي اجتهادا حقيقيا مبني على احتياجات مجتمعية حقيقية. فالدولة العربية تتسلط على المجتمع بدعم من شريحة من المؤسسة الدينية، وتضفي على قراراتها شرعية تمكنها من فرض سيطرتها والاستمرار في موقعها تمارس أدوارا وصلت إلى حد إنكار الحريات الدينية، حيث سبق للدولة أن تدخلت لصيانة عمليات إكراه في التحول من دين لآخر، وضغطت على المؤسسة الدينية لكي توافق على رأيها. إن هذا المبدأ لابد منه لضمان تحرك مدني حقيقي للدولة بدون شرعية مغتصبة، وبدون تبرير لقراراتها أو تغطية لأخطائها في حق الحياة المدنية والحريات.

هذا التعريف الجديد يحقق للطرف العلماني في السعي للإصلاح مجموعة من المكاسب التي فشل في تحصيلها عبر إصراره على التعريف القديم الذي أدى لتحصيل حالة من الفشل العام لكل قوى هذا التيار، ذلك الفشل الذي حاول تجاوزه عبر إعلان مفهوم التعايش مع الدين. ومن هذه الحقوق نجد المواطنة، وحريات الاعتقاد والنشر والتعبير، وتجنيب استخدام الشعارات الدينية في الانتخابات، وهي كلها مكاسب يمكن نيلها لصالح مشروع الإصلاح من خلال التفاوض السياسي المشروع مع القوى الإسلامية التي ستحصل في المقابل على فرصة تحولها لحزب مدني معلن التمويل والبرامج والأعضاء، وهو ما يعتبر في حد ذاته أكبر مكاسب المشروع الإصلاحي.

هذا التفاوض سيكون بداية لبناء التوافق الذي تنشده مجتمعاتنا بحق حول أولويات مشروع الإصلاح، وهو توافق لا يمكن لأوطاننا تجاوز محنتها السياسية من دونه.

تعليقات