قانون الجنسية.. ومواجهة هابرماسية في مصر


وسام فؤاد

ما كاد أهلنا في مصر يعلنون الهوية المصرية مشتركا بين جميع المصريين، ويطالبون بالتوحد حول راية المواطنة، والتحسس من البرامج التي تقصم هذه الهوية، حتى نشبت في مصر مواجهة هوياتية جديدة ذات طابع هابرماسي كلاسيكي، نسبة لفيلسوف التواصلية النقدي يوريجين هابرماس. ففي مقابل دعوة المواطنة، شرعت إدارة 3 يوليو في تعديل "قانون الجنسية"، القانون رقم 26 لسنة 1975، بحيث يتضمن مداخل جديدة لنزع الجنسية عن الآخر "الوطني"، وكأن "الإخفاء القسري و"التصفية بدون محاكمة" ليست كافية بحال للقضاء على هذا الآخر.

هي مواجهة هابرماسية بامتياز، بين "العقل الأداتي" و"العقل التواصلي". فالعقل الأداتي المادي، الذي يشيئ كل مكونات بيئته، ولا يميز بين إنسان وطفل وأهل أو سلعة ومادة خام و"حفنة رز". فكل متضمنات المحيط البيئي هي محض مكونات مادية لا قداسة لها، ولا قيمة. ومن ثم، لا يشكل التعاطي مع هذه المكونات بالعبث أو التصفية أو الإخفاء القسري أو نزع الغطاء القانوني خرقا لقانون الأداة. وفي المقابل يقف "العقل التواصلي" محاولا كسر دوائر الجمود والانغلاق التي فتت المجتمع، وكسرت أجنحته، والتمترس خلف معيار لدعم المجتمع المنسحق تحت وطأة السلاحين المقيتين "سلاح المشروعية السلطوي" و"سلاح الانتقام العبثي"، وهما السلاحان الذان يكرسان الحلقة المفرغة لسحق المجتمع. بالإضافة طبعا للسلاح الثالث، السلاح الإرهابي الذي يخنق الجميع بلا استثناء.

لست هنا بمعرض الحديث عن قانون الجنسية، أو تجليات العقل الأداتي المختلفة، فقائمة منتجات "الدولة الضارية Fierce State" بتعبير د. نزيه الأيوبي، والتي لا تأبه لشعبها وإرادته ومطالبه، هذه القائمة لن تتوقف ما دامت الدولة على ضراوتها، بدون مجتمع يقول لها "كفى". ومن ثم، فإن ما أقصده بالعقل التواصلي هنا هو "المرحلة الثالثة" من مطالب التمترس خلف معيار "المواطنة"، وهي الدعاوى التي بدأت تزحف مستشرية في خطاب النخبة المدنية داخل مصر، داعية أعضاء جماعة الإخوان (وليس الجماعة حتى المراجعة) للاجتماع على كلمة سواء في النضال من أجل مجتمع مصري قوي، قادر على إيقاف تغول الإرادة الأداتية العمياء، ورد مصر إلى المسار الوسطي.

أشرت في الفقرة السابقة لما أسميته "المرحلة الثالثة للتمترس خلف المواطنة"، في إشارة لمرحلتين سابقتين، أولاهما مرحلة ما بعد واقع إقرار الدولة القطرية، وتنادي هذه الدولة لمواطنيها بمواجهة استحقاقات هذه الدولة القطرية من مواجهة الاستعمار، ثم التحديات التي أعقبت الاستقلال؛ عسكرية كانت أو اجتماعية – اقتصادية. لكن ما يهتم به السياق هنا تلك "المرحلة الثانية" التي أسس لها ما سبق أن أسماه د. عبد الوهاب المسيري قبل عقدين من الزمان "موجة الإسلاميين الجدد"، وهي الموجة التي برغم تقديرها غير المختلف عليه للهوية الإسلامية، إلا أنها دعت لتجاوز "لافتة" الإسلام التي كانت آنذاك تعكس أحد وجهي الاستقطاب الذي استشرى في مصر برعاية سلطوية واضحة، ضمن ما اعتبرناه مشروع "الحكم بالخوف".

يحضرني، في هذا الإطار، لواقعة شهدها ميدان التحرير في أيامه الأولى، عندما نصبت جماعة الإخوان خيمتها في الميدان يوم 28 مساء، ووضعوا عليها لافتة كتب عليها "الإخوان المسلمون"، مرفقة بشعار الجماعة، فتدخل عدد من قادة الرأي، من الجماعة ومن خارجها، ناصحين قاطني الخيمة بإلغاء اللافتة التي وضعوها، ولم يتردد قاطنو الخيمة في الاستجابة لتلكم النصيحة، وشهدت الأيام الثماني عشرة من عمر مشروع يناير حالة تفاعل خلاق بين الجميع في الميدان من دون حساسيات أو تمايزات.

وبرغم نبل واقعة إزالة اللافتة عن خيمة "الجماعة" في أيام يناير الأولى، إلى أن قصة "التخلي عن اللافتة" ليست وليدة الميدان، بل ترجع إلى 1996، حيث اتجه قطاع من جيل السبعينات داخل الجماعة للخروج من الجماعة آملين دعم فضاء سياسي جديد يستلهم خبرة جيل السبعينات الذي لم يحمل أعباء مواجهات "ناصر" والإخوان، في محاولة للتخلص من المحمول التاريخي للاستقطاب، وكان المحمول الفكري موضع مراجعة خلاقة أنتجت برنامج الحزب الذي مر بثلاثة برامج حتى خرج للنور، أولها حزب الوسط، وثانيها حزب الوسط المصري، وثالثها برنامج حزب الوسط الجديد، في إصرار على رفض حمل "اللافتة"، وفي إشارة إلى أن تجاوز الخلاف الهوياتي إلى طروحات برامجية وأجندات تحمل ما هو مشترك بين المصريين أكثر مما تحمل من أوجه الاستقطاب هو الهدف من المشروع الجديد، وكانت إضافة التوصيف المصري للحزب من أبرز أيقونات التوجه الجديد.

لم يكن حزب الوسط المصري آخر التحركات السياسية التي ذهبت في اتجاه إماعة الخلافات الاستقطابية الكبرى، ومحاولة التأكيد على المشترك المصري، بل أضيف إلى هذا التوجه جهود حركات أخرى خرجت من نفس الجماعة باتجاه الضغط لتشكيل التيار الأساسي للأمة المصرية، كان أبرزها المجموعتين اللتين أسست إحداهما حزب "مصر القوية" في يوليو 2012 متمسكا بالمادة الثانية من الدستور مع رفضه احتكار الإسلام في حزب أو أحزاب أو استخدام الدين كشعار ضمن الصراعات السياسية، بينما أسست الأخرى حزب "التيار المصري" في ديسمبر  2013 على قيم تجاوز الاستقطاب الأيديولوجي، والديمقراطية التشاركية، واللامركزية الإدارية، وتمكين المهمشين. ومع هذه الإشارة لأهم الملامح البرامجية للحزبين، يلفت حملهما اسم "مصر" كإطار يجمعهما بكل التكوينات السياسية التي تسعى للمشاركة في صنع مستقبل البلد سياسيا. وصارت التجربتان إلى خبرة اندماجية تحت راية "مصر القوية" في الأول من أكتوبر 2014.

استسهل المجتمع السياسي، إلا قليلا، رفض التعاطي مع هذه الخبرات الانفتاحية الإسلامية بقدر من الجدية في حينه، وبخاصة "خبرة حزب الوسط"، وكذلك إرهاصات نهج عبد المنعم أبو الفتوح والشريحة "الإخوانية التي كان يعبر عنها، وهوالاستسهال الذي أغلق باب تجديد جماعة الإخوان من الداخل، حيث بدا للجميع أن خبرات الانفتاح لا تلقى احتفاء لا من السلطة ولا من المجتمع المدني، ما أدى لاحقا لاندفاع الجماعة (التنظيم بشكل أساسي) باتجاه "الترييف" و"التسلف"، برغم ضغوط قطاع من النخبة السياسية داخلها باتجاه الانفتاح، وهو ما قاد لاحقا لموجة الانشقاقات التي شهدتها الجماعة بعد 25 يناير.

الاستسهال المشار إليه سابقا أفاد أن المواجهة على أساس الهوية قد لا تكون بسبب حامل الهوية، بل بسبب من يصر على وضعه في إطار هوياتي لا يريد الأخير أن ينتمي إليها. تتبدل المواقع، وضمنها تتبدل الظروف والمضامين، وتقف جماعة الغخوان اليوم نفس موقف التيار المدني من القوى الإسلامية الجديدة. وما من شك في أن الملف ما زال في بداياته.


اضغط على العنوان للذهاب للنص في موقع النشر الأصلي

تعليقات