الحركة المدنية ومفاجآت المجال العام المصري


وسام فؤاد

على الرغم من الخطاب الأمني، وأحاديث مسار الاستئناس الذي رافق تدشين “الحركة المدنية المصرية”، فاجأت “الحركة” المراقبين بما تمكّنت من حصده من قبول بين القوى السياسية، وهو ما يشي بتحول طبيعة المواجهة السياسية في مصر من أنها أزمة سلوكية تتعلق بإدارة الاختلاف والتباين بين توجهات الفصائل السياسية حيال تكييف ملامح الأزمة في مصر وطرائق الإصلاح، إلى أزمةٍ بنيويةٍ، يمكن توصيفها اليوم إيجازاً بوجود إجماع وطني عام في جانب، ومنهج سيطرة أمنية محضة في الجانب الآخر، ما يعد تبلوراً نوعياً للأزمة السياسية في مصر.

فمحاولة الأجهزة الأمنية تمرير مبادرة “الحركة المدنية” تحت سقفٍ أمنيٍّ منخفض، يجبرها على رفض تسمية “3 يوليو” انقلاباً عسكرياً، ويتبنّى موقفاً متحفظاً حيال دعوة الإسلاميين للمشاركة فيها، هذه المحاولة انتهت بإنتاج توافقٍ، حتى داخل الكتل الإسلامية القوية حول المبادرة، بدءاً بالتيار السلفي المعارض، حتى جماعة الإخوان المسلمين، مروراً بحزب الوسط، مع وجود تحفظاتٍ شكليةٍ بشأن قيمة ما احتوته من إشاراتٍ إقصائيةٍ لم يأخذها على محمل صارم سوى حزب مصر القوية. ولمعرفة اتساق منطق جماعة الإخوان يمكن النظر في قائمة المطالب؛ التي لا تكاد تختلف جوهرياً عن المطالب التي تضمنتها وثائق مصرية سابقة، منها إعلان بروكسل، ثم تطويره تظاهرة سياسية من داخل مصر عبر “إعلان القاهرة”، ثم “مبادرة واشنطن”.

لم تلبث هذه المواقف من الإشارات الإقصائية أن توارت مع حجم الاتفاق العابر للأيديولوجيا بشأن أمرين، أولهما التوافق حول أي جهد توحيدي للمعارضة، وثانيهما التوافق المطلق حول المطالب التي حملتها المبادرة. ولم يتحفظ على التعاطي مع المبادرة من قوى التغيير غير المحسوبة على “مشروع يناير” سوى حزب الجبهة الوطنية الذي يبدو أنه يخضع لسقف أمني من نوع مختلف، أكثر حدّة، ويمثل مصدراً لاستياء رجل الشارع الذي استبشر بعودة الفريق أحمد شفيق، في إدراك شعبيٍّ واعٍ لجدوى علاقة المرشح مع المؤسسة العسكرية المصرية، ليكون ترشيحه جدّياً.

الاتفاق الوطني، المتفاوت في شكلانية تحفظاته، بين شركاء “مشروع يناير” على المبادرة، ينقل أهميتها من التمركز حول ذاتها إلى التمركز حول آلية تبلور الاتفاق حولها. وعلى الرغم من وجود تيار ثوري يتحدث عن هزيمةٍ كاملة لمشروع يناير، فإن هذا الاتفاق يمثل مواجهة عملية متحققة على أرض الواقع، من مشروع “الحكم عبر التخويف من الآخر الفكري”، وهو المشروع الذي بدأ باعتباره عملية تاريخية مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، بتحالف الحداثيين مع ما اعتبروه رمزاً للتحديث، ثم تحول للعبة سياسية مع خلفه الرئيس أنور السادات الذي أراد قوى مساندة بديلة عن التي دعمت عبد الناصر، من دون دعمه، وتحول إلى منهج تمزيق كامل مع حسني مبارك الذي أحالها إلى استقطاب حاد. ويدرك الجميع اليوم أن التوافق الإجرائي شرط، ليس للحضور السياسي، بل لإنقاذ مصر، ويومض بضوءٍ أحمر متقطعٍ سريع الإيقاع لمن يعنيه شأن استقرار هذا البلد.

الأمر التالي في الأهمية الذي تبلوره المبادرة، يتمثل في أن المعوّق الوحيد المتفق عليه، والمتفق على استيعابه في آن، هو المعوق الأمني، وهو لم ينجح في السيطرة على مستهل إطلالة مبادرة “الحركة المدنية الديمقراطية” على الشارع السياسي المصري. فخطاب الحركة الذي يفترض أنه مستأنس تضمن توصيفاً ميلودرامياً للوضع في مصر، استعار فيه أيقونات “بيع الأرض والعرض” و”الأداء الكارثي” و”نهم المديونية”، وذكّر رأس إدارة “3 يوليو” أن “الحاكم” محض “خادم”، وهو مبدأ يسلب المنصب شرفه، ويعلن للخادم أن خدماته “الكارثية” لم تعد مرغوبةً، حتى وإن لم يصرح بذلك.

ومن جهة أخرى، كان التأرجح بين صياغاتٍ واضحة وأخرى لعوبٍ فيما يتعلق بمن له الحق في الانضمام للمبادرة رداً غير مباشر على مربع “الخضوع الأمني” الذي حاولت إدارة “3 يوليو” دفع المبادرة إليه، حيث فهم الجميع اللعبة، واستوعبوا الصياغة، وساندوا المبادرة، بما لم يدع مجالاً لانهيارها معنوياً. وتلقفت “الحركة” بدورها الدعم، وسارعت إلى احتواء التصريحات التكتيكية الإقصائية الظاهرة لبعض الموقعين عليها، وقصرت التعبير عن مواقفها على متحدّثها الرسمي، وأحالت تصريحاتٍ، أياً كان داخلها، إلى تصريحات فصائلية، وردّت الأزمة إلى مُصدّريها.

وقد اشترطت الأجهزة الأمنية المساندة لإدارة “3 يوليو” وضع سقف لمبادرة “الحركة المدنية” التي لم تلبث أن سربت اعترافاً بهذا الضغط الأمني، عبر صحف غير خاضعة للقيود الأمنية، قبل أن يهاجمها السياسيان المصريان، ممدوح حمزة ومحمد سعد خير الله منسق “التجمع الحر من أجل الديمقراطية والسلام”، غير أن القوى المصرية، في بادرة وعي، رفضت اعتبار هذا السقف الأمني سبّة، بل اعتبر الرمز السلفي جمال سلطان أنها “تطوّر سياسي مهم”، على الرغم من هذا الوضع الأمني. وأبدى الرمز الإخواني، حمزة زوبع، معارضة شكلية لترتيب المطالب. ورحب المتحدث باسم حزب الوسط بالمبادرة، وتحفّظ على تصريحات صدرت عن بعض قيادييها؛ لم تلبث “الحركة” نفسها أن همّشتها، وتوالت المساندات.

تضع الأجهزة الأمنية نفسها سقفاً حادّاً لجماعة الإخوان ولعموم الإسلاميين، يختلف عن سقف السيطرة على بعض رموز المعارضة، فهو سقفٌ أكثر قسوةً يرتبط بوجود عشرات الآلاف من الشباب داخل السجون، حتى وإن صيغ الإطار القانوني ليسبغ على اعتقالهم مشروعيةً غير مبرّرة اجتماعياً وسياسياً. من الطبيعي أن يعيق هذا الأمر حركة القوى الإسلامية، ويخفّض سقف اجتهادها، بقدر ما يتيح لها الفرصة لتقديم اجتهادٍ جديد، يوفر معالجةً لأزمة المعتقلين، ويسهم في جعل هذا التيار أكثر وظيفيةً داخل السياق المصري، حتى مع تمسّكه بمرجعيته، ونطاقها الأخلاقي المركزي، بل إن نطاقها الأخلاقي يمكن أن يمثل أحد أهم مصادر فاعليتها في “مصر المقبلة”، بشروط مجتمعية ينبغي تقديرها.

خلصت دراسات مختلفة إلى أن مشروع يناير المعارض يعاني من أزمة تآكل رأسماله السياسي، وهو التآكل الذي بدأ مع فرط الترشح للرئاسة في العام 2012، وتفاقم بعد ذلك. وقد قوّض التآكل في رأس المال علاقة هذا المشروع بالقاعدة الجماهيرية الوفيرة التي خرجت إلى الميادين في 2011. يبدو اليوم أن مشروع يناير قد عاود ترميم رأس ماله هذا، والشارع المصري ليس بعيداً عن مراقبة هذا الأمر، ويتابع، بما قد يبدو لامبالاة، مشهد الترميم الحادث.

لمراجعة النص في موقع النشر الأصلي يرجى الضغط على العنوان

تعليقات