الوزير والمثقفون والحجاب ضد الوطن في مصر




انتهت أزمة الحجاب ظاهريًّا، لكنها لم تنته من ناحية تداعياتها السلبية، أو لنقل إنها لم تنته من حيث كونها تعبيرًا عن أزمة تمس مستقبل وطننا القطري: مصر.

فقد كشفت هذه الأزمة عن أمر سلبي في حياتنا العامة ظننا أننا تجاوزناه، ولكن قدر مصر أن يجرها الفرقاء المثقفون المصريون دومًا لمربع الصفر من مربعات رقعة الإصلاح والنهضة. وبدا أن هذا الاجترار لم يكن عقلانيًّا بحال، حيث لم يصحبه تفكير في أولويات المصلحة الحقيقية للوطن، وبدا كأنما هناك شوق للعودة لمرحلة الاستقطاب، أو أن الجميع كان يود رؤية بعض الدماء تسال في معركة ما من دون التفكير في عواقب هذه المرحلة.


ملامح الأزمة المزمنة


لا أدري هل صارت أزمة مربع الصفر جزءا من شخصية المثقف المصري أم ماذا؟ فكل ما نفعله يشير إلى أننا كلما تقدمنا خطوة أعادنا مثقفونا إلى الوراء خطوات.


فمع تتالي فشل مشروعات التحديث كنا دوما نعيد طرح سؤال الهوية والتاريخ ونُصِرّ على استبعاد ثقافتنا وتاريخنا الإسلاميين. وكلما وصلنا لتوافق مزقناه وعدنا فرقاء متحاربين. وكلما وضعنا تصورًا حول أولويات العمل الوطني وظننا أننا نبني التوافق حوله ظهرت قضية هامشية حركت في مثقفينا بواعث غريبة لا نجدها إلا مطيحة بما توافقنا عليه. دعونا لا نطرح أنموذجًا رمزيًّا نظريًّا بغير أن ندلل عليه بنماذج آنية معاصرة.


فحركة "كفاية" بدأت كمظلة وطنية جمعت تحت كنفها فرقاء يساريين وليبراليين وإسلاميين، لا شك أن الغالبية كانت ذات خلفية يسارية، لكننا استبشرنا خيرًا بتقصيها مصلحة الوطن وتجميع الفرقاء، وظننا أن لها قائمة أولويات قومية، فإذا بها تبدأ في منتصف 2006 بمعاودة طرح قضية العلمانية وإقصاء الدين عن الحالة العامة، برغم أن أغلب الفرقاء فيها يعلمون أن الدين هو الذي حرك الحياة العامة في مصر الآن وقبل ذلك، بما في ذلك خبرة مقاومة الاستعمار وما تلاها.


وبدلاً من أن يستفيدوا بالدين كقوة تعبوية ويحاولوا الاستفادة من الأطروحات التجديدية فيه إذا بهم يطالبون بإقصائه مجددًا، بالرغم من أن هناك أطروحات وسطية تجعل الدين عنصر نهضة وتجميع لا تفريق وتمزيق؛ أعني بذلك أطروحة: "مواطنون لا ذميون" على حد تعبير الأستاذ فهمي هويدي الذي شايعه فيه نخبة عريضة من قادة الفكر والرأي الإسلامي التوجه.


وكانت قضية الحجاب من هذه القضايا. قام وزير بطرح قضية، وبدلاً من أن نضع هذه القضية في حجمها الطبيعي؛ ونلزم خصوم الوطن بضرورة وضع هذه القضية في حجمها الطبيعي إذا بنا نتقاتل ولا نبالي بأولويات وطننا، ولم نفق إلا وخصوم الوطن هم المستفيدون: مزقوا صف قوى العمل الوطني أولاً، واكتسبوا شرعية المدافعة عن الحجاب ثانيًا، كما اكتسبوا شرعية التعقل في إدارة المواجهات ثالثًا.



الخسارة الأولى: انهيار الأولويات


كانت خسائر الوطن من جراء أزمة الحجاب "الفاروقية" جمَّة كما نرى، وكانت خسائر أعداء الوطن صفرًا. كانت مكاسبنا منعدمة، وحصدوا كل المكسب.


لقد أقدمت الدوائر المرتبطة بالحكومة على إشعال هذه المشكلة ابتداء بطرح وزير الثقافة رأيه في الحجاب، وتابعوا إشعال نارها عبر وسائط الإعلام المختلفة: إذاعة وتليفزيون وصحافة، وتدخلوا لإطفاء هذه النار خالعين أردية يهوذا لابسين مسوح المسيح. ولم يكن يعنيهم من الأمر شيء لو خسروا هذه المعركة فبإمكانهم دوما أن يرتبوا فضيحة لوزير ثقافتهم ويقيلوه عقبها، أو حتى يقيلوه بسبب هذه القضية، ولو أني أشك في أن حكومة في هذا العهد تقيل وزيرًا؛ لأنه اعتدى على قيمة تعتز بها الأمة. فعلاً لم يكن ليعنيهم من الأمر شيء لو خسروا، فما بالك مع مكسبهم الجم الذي أوضحناه.


هذا عن حسابات النظام لحركة مكاسبه وخسائره، فماذا عن الحالة العامة العاملة لمصلحة الوطن؟ ماذا كسبت وماذا خسرت؟ لا أكاد أجد تعبيرًا أبلغ عما أحاول التعبير عنه من قوله تعالى: "فاستخف قومه فأطاعوه...".


فأعظم الخسائر التي مُنِي بها العمل الوطني بمصر من جراء هذه الأزمة تتمثل في التعجيل بانهيار ما اعتبرناه بداية تبلور سلم أولويات للمصالح الحقيقية للوطن.


فخلال السنوات الخمس الماضية، وبخاصة بعد بلورة النظام الحاكم لرؤيته حول مصر، باعتبارها إقطاعية خاصة قابلة للتوريث؛ ومنذ ذلك التاريخ بدأنا نلمس جدية في العمل العام بدرجة أو بأخرى تسعى لإقناع المصريين أولاً والنظام الحاكم في مصر ثانيًا بأن مصر ليست إقطاعية أو "عزبة"، وأن عشرين عامًا من الفساد والسرقة وتهريب ثروة البلد للخارج بالتواطؤ لا تعني إمكانية استمرار هذا الوضع أو حتى التغطية عليه عبر باب التوريث.


وبدا أن الجميع متلهف لإنقاذ مصر مما هي مقبلة عليه من مصير مظلم ملامحه وإرهاصاته لا تخفى على أي قارئ عادي للصحف اليومية. وتصورنا أن إنقاذ مصر صار له أولوية قصوى، وأن الجميع يدرك أن الخبرة التاريخية أثبتت للجميع أن التيارات الإسلامية الوسطية هي الأقدر على تعبئة الشارع وراءها، وأن من المفروض علينا جميعًا إتاحة الفرصة أمامها للقيام بهذا الدور التاريخي، مع اجتهاد كل الفصائل الفكرية في الضغط على التيار الإسلامي الرئيسي فيها (جماعة الإخوان المسلمون) من أجل تغليب العنصر التجديدي في داخلها، ودفعه ليتبوأ المكانة التي يستحقها داخل الجماعة، ومن ثَم إتاحة الفرصة لقيادة هذا الكيان التاريخي القوي ليشرك الجميع ويشترك معهم في عملية تطهير الوطن من محاولات العبث به.


يبدو أننا جميعًا توهمنا أن الجميع لديهم هذا الحس، وإذا بهذه الأزمة تكشف الوهم وتبدي الوهن، وتعجل بسقوط قائمة الأولويات، وتعيد أمامنا جميعا شرح قوله تعالى: "فاستخف قومه فأطاعوه..". وهنا تراءت لي خاطرة مفادها أن نص الآية الكامل هو: "فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قومًا فاسقين"؛ هذا النص ربما جعل الاستسلام لتأليه الحكم على حساب تأليه العقل بمثابة نوع من الفسق، فكان الفسق هنا حكمًا بانتفاء العقلانية، وأحسبه كذلك -استلهامًا لروح الشريعة- تعبيرًا عن غياب الحس الوطني العام؛ لما للتأليه من تداعيات مرعبة على حساب الوطن ومصلحته.



الخسارة الثانية: فقدان الثقة فصائليًّا


العنوان دال في ذاته. فثاني أهم الخسائر على الصعيد الوطني أن جميع الفصائل والقوى السياسية التي شاركت في هذه "الزفة الكاذبة" قد فقدت ثقة التيار الإسلامي فيها حول إمكانية العمل المشترك.


فقد بدا من المرحلة المنصرمة من العمل الوطني أن الفصائل السياسية كانت بحاجة لأمرين معًا؛ أولهما: ضرورة بناء حالة ثقة وطنية تسمح للجميع بالاستفادة من الإمكانية التعبوية للتيار الإسلامي؛ للمشاركة الجادة في مرحلة الإصلاح بدلاً من السكون الغريب الذي يلف تنظيم هذا التيار بدافع الحرص عليه وعلى موارده. وثانيهما: أن هذه الثقة وتلك الشراكة مرتبطة بالحرص على دفع هذا التيار ليجدد أطروحاته السياسية بصورة تجاري التجديد الحاصل في عقول المجددين المحسوبين على هوامش هذا التيار (يمينًا ويسارًا)، ودفع المساحات الوسطية المرنة من هذا التيار للاستفادة من هذه الأطروحات التجديدية واستيعابها والتحرك بها بما يعزز التلاحم الوطني الحقيقي.


وبدأت خطوات متئدة لبناء هذه الثقة/ الشراكة وتعزيزها، وكان كل احتكاك يضيف لهذه الثقة/ الشراكة، وكانت مصداقيات ذلك في الأزمات السياسية المختلفة التي شهدتها مصر في عامي 2005 و2006، أزمة المادة الدستورية رقم: 76، وأزمات الانتخابات؛ ومساندة جماعة الإخوان لعدد كبير من المرشحين المحترمين من التيارات الأخرى، وكذا أزمة القضاة، وأزمة الصحفيين.


ولا شك في أن الثقة التي نتحدث عنها لم تكن كيانًا تامًّا مكتملاً في قوامته على سائر الاعتبارات التي تحكم الإسلاميين وغيرهم في مساحة العمل العام، بل كان الأصل في علاقة الشراكة الوطنية غياب الثقة المدعوم بخلفيات تاريخية صراعية، وخلفيات سياسية لا تقوم على تغليب مصالح الوطن فوق مصالح الفصائل.


غير أن المهم بدا آنذاك متمثلاً في إدراك الجميع لضرورة تناسي الخلفيات التاريخية استلهامًا للخبرة السياسية الإيجابية لجيل السبعينيات داخل كافة الفصائل. ولم نكد نشرع حتى جرنا المفرِّطون مجددًا للمربع المشئوم: صفر.


ولا يمكن لأحد أن يلوم التيارات الإسلامية (الوسطية واليمينية) على قيامها بإجراءات مشروعة حقوقيا لمحاسبة الوزير، أو محاولة الدفاع عما تراه من الثوابت التي لا يجوز التفريط فيها أو التلويح والتلميح بالاستهانة بها وبالنظر إليها. فالملام حقيقة هم من شاركوا الوزير المتخبط في رؤاه وأطروحاته.


وقبل أيام كنت أشاهد حديث الدكتورة "نجوى الفوال" مديرة المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية بمصر حول مؤتمر شرم الشيخ لمكافحة الإرهاب (ديسمبر 2006)، ووجدتها محجبة؛ وتساءلت: هل ينظر الوزير المتخبط لهذه السيدة الخبيرة المتمكنة القديرة باعتبارها متخلفة، في الوقت الذي تترأس فيه نخبة من كبار علماء مصر في مجال العلوم الاجتماعية؟ وهل ينظر الممثل حسين فهمي إلى سيدة بهذا القدر؛ تسهم في إدارة التفاعلات العالمية على هذا النحو؛ باعتبارها سيدة معاقة ذهنيًّا؟ وهل قارن المتخبطون وضع بلادهم بالنموذج الإيراني "المحجب" الذي دخل المجال النووي السلمي بتقنية ذاتية وليست مستوردة، كما أنه يجري الجيل الثالث من تجارب الاستنساخ؟


ولن أطيل الحديث في هذا المقام أكثر من هذا، ولكن بدا في هذا المشهد أن الحالة العلمانية لا تقبل التعددية حيال قضية الحجاب، بينما الحالة الإسلامية لا تأبه لحضور هذه القضية على المستوى العام، وإن كانت ترى أن الحجاب فريضة وأن مصر أمة مسلمة.



الخسارة الثالثة: القطيعة مع الجمهور


للمرة الألف نعيد طرح التساؤلات حول أسباب فشل المشروعات القومية النهضوية العلمانية المصرية. ويشاركنا في هذا الاستفهام مفكرون علمانيون، أمثال: محمود أمين العالم وحسن حنفي وغيرهم... والإجابات جميعًا تتضمن عدم التجاوب الجماهيري، سواء أكان الحديث عن هذا التجاوب باعتباره عاملاً مركزيًّا أو ثانويًّا. فهذه المشروعات لم تكن تستلهم أو تتمثل ثقافة الجماهير، ولم تفكر في التعاطي معها وتجديدها، بل نظرت إليها على أنها ركام رجعية لابد من محوه واستبداله. وفي النهاية فشلت تلك المشروعات في محو ثقافة الأمة، غير أن هذا الفشل رافقه تغييران عارضان. فمن ناحية أسهموا في دفع الأمة لتجديد ثقافتها (وإن كان هذا الدفع غير مقصود)، ومن ناحية ثانية حل بعض الفساد بهذه الثقافة مما جعلها تطلب العلاج أكثر من كونها ثقافة دافعة محفزة للنهضة.


والتساؤل هنا هو: هل كان هذا المسلك الجديد مما يستدرك الخطأ ويقترب بنخبة الإصلاح من الجماهير وثقافتها؟ والإجابة مأساوية. فاليسار لا يفتأ يبتعد عن الجماهير حتى لا تكاد تجدهم في الأوساط الاجتماعية التي يفترض بهم قيادتها والتعبير عن مطالبها ومصالحها (الأوساط العمالية). وسائر الأحزاب الجماهيرية صارت نخبوية لا تكاد تجدها إلا في مقراتها، والحقوقيون لا يتواجدون في صفوف الجماهير، بل النخب. وكل من هؤلاء يحمل أجندة لا تقترب من ثقافة الأمة وضميرها.

تعليقات