تحترقون تحترقون.. الرسول واستعادة إنسانية الإنسان



روى الإمام الطبراني بإسناد جيد، ورواته محتج بهم في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "تحترقون تحترقون فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم شيء حتى تستيقظوا".
يفسر المفسرون - وقولهم صحيح بلا ريب - هذا الحديث باعتبار أن المقصود هو نار المعصية التي يكابدها الفرد، والتي لا مطهر للعبد منها سوى الصلاة التي بمثابة الماء البارد الذي ينزل على تلك النار فتطفئها وتغسل آثارها.  ولعل مما يدعم ذلك التفسير ما رواه البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب". صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.


رؤية أخرى في الحديث
من أجمل خصائص النصوص النبوية بعد القرآنية أنها ما لم تكن قاطعة الدلالة فإنها تحتمل أن نعيد قراءتها في ضوء أفهام تحصلنا عليها بفعل تقدم العقل البشري.ومنجزاته التقنية والنعرفية. ولا يمكن في هذا الإطار أن تلغي إحدى القراءات القراءة الأخرى. فكل القراءات اجتهادات سليمة طالما يحتمل النص استيعابها؛ فلا نحمله بها ما لا يطيق أو يحتمل. ومن المعاني التي أشعر أن النص النبوي المشرف يحيط بها ذلك المعنى المتعلق بمداواة أدواء المدنية المعاصرة؛ برغم أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام.
ما الفارق بين الحياة البسيطة التي كان النبي وصحابته يعيشونها قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام وبين حياتنا اليوم لنظن معه أن الحديث يحمل معنى يتعلق بها أكثر من أي وقت مضى؟ والإجابة أن زمننا يعيش تلك الحالة من الآلية المادية التي  تستهلك آدميتنا التي لا يزال جانبها النوراني الذي يحمل من روح الله جل وعلا يتحرك فيها مطالبا بالكف عن الدوران في تلك الساقية (بحسب تعبير الفنان المصري الراحل صلاح جاهين)، والتوقف للنظر إلى ما فقدته آدميتنا بالانخراط في مجتمع المدينة البارد القاسي الذي اشتكي منه أليكسيس كارليل من قبل في "الإنسان ذلك المجهول" بقدر ما رفضه هيربرت ماركيوز في "الإنسان ذو البعد الواحد"، وبقدر ما رفضه كثير من الإسلاميين واليساريين النقديين الذين شعروا أن إنسانيتنا ضاعت في مجتمع المدينة الذي تجاوز المجتمع الصناعي بمشكلاته؛ لنستغرق اليوم في اقتصاد رمزي استوعب - برغم إيجابياته - سلبيات المجتمع الصناعي وتجاوزها بمراحل مريرة تحتسب معها ثرواتنا وأعمارنا المادية معها بالثانية وليس بساعة العمل كما في المجتمع الصناعي؛ وأجرها الزهيد التي أدت إلى حالة الاغتراب الحادة التي عانت منها ولا زالت تعاني تلك المجتمعات الغربية التي تباشر اليوم إجراءات تصديرها لمجتمعاتنا التي بدأت تعاني نفس الاغتراب؛ وإن لم تنهر أواصرها بعد، تلك الأواصر المستهدفة بمحاولات تمرير القوالب الاجتماعية الغربية عبر آليات الشذوذ وتفكيك الأسرة وخصومة الرجل والمرأة وانهيار القيم الاجتماعية التراحمية أو التعاضدية.

اليوم نفهم الحديث فهما خاصا مضافا لفهم السلف له ومكمل لهذا الفهم. وهو فهم نحتاج إليه بقدر ما نحتاج في مجتمعاتنا المسلمة لاستعادة الإنسان في داخلنا، ذلك الإنسان الذي لم نفقد منه بعد سوى بعده الاقتصادي. نعم فقدنا الإنسان في بعده الاقتصادي. ففي سبيل لقمة العيش وجدنا الإنسان منا لا يصل رحمه خوفا من الالتزامات المترتبة على هذه الصلة؛ وبخاصة الالتزامات المالية. ونفس الروح نجدها في كافة أشكال الحياة الاقتصادية. فلم يعد العامل يخلص في عمله لأنه لم يعد على صلة بعميله ولا يهمه إلا المال الذي يحصل عليه من جراء إنجاز الخدمة الاقتصادية بشكل ظاهري. ولم يعد السوبرماركت يقبل مراعاة ظروف الفقير الاقتصادية لأن العمليه لم تعد علاقة مباشرة بين البائع والمشتري؛ بل علاقة بين موظف في مؤسسة وعميل لهذه المؤسسة. وأذكر أني قبل شراء سيارتي كنت أركب ميكروباسا؛ وسمعت فيه التباع يقول للسائق: "قف ليركب هذا الجنيه". فهذا الطفل "التباع" لم ير في الراكب سوى قيمته الاقتصادية (الجنيه) ولم ير فيه إنسانا مرهقا عائدا من عمله يحتاج للإسراع بالعودة لمنزله وأهله. ولعلك تقف لحظة أمام أكوام القمامة التي انتشرت في شوارع مدن القاهرة لتكتشف عبارة ساحرة يستخدمها الكناسون في هذه الشركة: فهم يعملون "على قدر المال الذي تمنحه لهم الشركة"، أو كما يقولون (على قد فلوسوهم) وبدلا من أن يعملوا على تنظيف الشوارع نجدهم ينصرفون للشحاذة واستجداء المال من المارة؛ دون أن يتوقفوا ليسألوا أنفسهم عن سبب قبولهم لهذا العمل المهين بذلك الأجر الذي لا يغني ولا يسمن من جوع. 
ذلك هو الإنسان الذي لم نعد نجده في مجتمعاتنا، وهو الإنسان الذي كان رسولنا صلى الله يسعى لاسترداده من خلال الحديث الذي أسلفنا ذكره وتخريجه.

تحترقون تحترقون.. فتطفئها
كما سبق وأخرجنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحترقون تحترقون فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم شيء حتى تستيقظوا".
ما نراه في هذا الحديث هو سعي للموازنة في حياتنا ما بين البعد المادي والبعد الروحاني الجواني الإنساني. إن ما يطرحه الحديث النبوي المشرف في هذا الصدد هو ذلك التوزان المفتقد. والحديث - بادئ ذي بدء - يصف وضع الإنسان في الحياة المادية. فالاحتراق هو احتراق من مادية الحياة التي نحياها بقدر ما هو احتراق مما يقترفه الإنسان من آثام حدد الله أعلاها وزرا بالآثام في حق البشر: كل البشر. وهذا هو الإنسان الذي يسعى الرسول لاسترداده بالصلاة.
في هذا الحديث صارت الصلاة رمزا لكل عملية اجتماعية أو عبادية يقوم فيها الإنسان بترك الانغماس الكلي بلا حدود في ترس الحياة الاقتصادية: ذلك الترس الرهيب، الذي يغير القيم ويهدر المبادئ - إن انغمسنا فيه بالكلية - لكي يجلس إلى ربه أو إلى عائلته أو حتى إلى نفسه لينقذها من الاستغراق في البحث المضني عن القيمة الاقتصادية التي يفقد بعضهم كرامته وآدميته وأهله في سبيلها.
ويكأن الرسول صلى الله عليه وسلم ينبهنا إلى عدم الاستغراق في البحث المضني عن المال من دون أن نتوقف بالإيمان لحظة لنلتفت إلى ما يحيينا حقيقة. فنحن بشر، لدينا قيمنا وأفكارنا، ولدينا أسرنا وعائلاتنا، ولكل دائرة من هذه الدوائر علينا حق، ولابد من التوقف لبرهة لكي نعرف أن المال ليس الغاية؛ فالغاية أعلى وأبر؛ وتقصيها من الإحسان الذي هو أعلى مراتب الإيمان. وفي هذا الإطار نفهم سبب قول أحد الصحابة أنه إذا "رفع أحدهم فأسه ثم نودي للصلاة فلا يهوي بها". أي أن شرع في شئ ثم نودي للصلاة كان يترك كل ما في يده ولو كان يرفع فأسا ليقطع بها حطبا أو صخرة فإنه لا يهوي بها؛ بل يتركها.

نحن هنا لا ندفع الناس لإهمال قيمتي العمل والكسب؛ فهاتان القيمتان من "أعمدة" الشخصية المسلمة، لكننا نحذر من أن يكرس الإنسان نفسه لجلب المال. فهذا الحديث مكمل لطرح الإسلام الذي يجعل المبادئ فوق الحياة وفوق المال معا. يقول تعالى: "إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيل". فالمقصود من هذه الآية أنه لا قيمة لحياة بدون القيم والأفكار والمعتقدات التي يعلم كاتب هذه السطور أن أصحها الاعتقاد بألوهية الله والامتثال لأوامره، وإن كان لا ينكر حرية أي أحد في اختيار المعتقدات التي يؤمن بها. كما ينبهنا الله جل وعلا إلى أنه لا قيمة لمال بدون الاعتقاد الصالح المتزن. إن قول الله تبارك وتعالى: "أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم" هو ملمح في نفس النهج الذي يجعل المال متاع دنيوي لازم لإدارة الحياة التي لا قيمة لها بدون المبادئ والمعتقدات.
إن طرح الإسلام يضيف للقيمة الذاتية للفكرة أن تكون مرتبطة بالله سبحانه. فالإيمان بالله يرتبط به استعداد وافر لتقديم الحياة والمال في سبيله. وفي سبيل القيم السامية التي جاء بها؛ والتي على رأسها حقوق الناس؛ سواء أكان هؤلاء الناس جيران أم أقارب أم رعية أو مواطنون.. إلخ. ولهذا فإن المدخل لاستقرار الفكرة والعقيدة أن يقطع لها الإنسان من وقته أيا كان تخصيص هذا الوقت: إن كان مخصصا لجمع المال، أو مخصصا للأهل، أو مخصصا للمتعة. فكل هذه الاعتبارات إن افتقدت هذا الانقطاع وهذا الارتباط بالله جل وعلا فإنها تتحول لقيمة في ذاتها، فيصبح المال غاية، ويصبح الأهل عصبية مقيتة، وتصبح المتعة طغيانا يقوم الفرد في سبيلها بالتضحية بكل قيمة سامية (المخدرات كمثال).
ولهذا كان التعبير الأمثل للنبي صلى الله عليه وسلم واصفا هذه الحالة من الانغماس الكلي في المادة بأنها احتراق لا مطفئ له إلا قطع التواصل المادي بتواصل روحي. ومتى كانت روحنا مرتبطة بالله سهل علينا أن نراقبه ونستشعر حضوره، وأن نلتزم بتعاليمه التي تبدأ بإماطة الأذى عن الطريق وتنتهي بالأعمال العظيمة التي تخدم عموم الإنسان.
إن الانغماس في الحياة المادية هو أم المعاصي. فالانغماس في المادة  والانقطاع لها دفع الناس للشرك في الاعتقاد؛ ودفعهم لمد اليد للحرام، ودفع لقطع الأرحام، ودفع لقتل النفس، ودفع للبغي والاستبداد والاستكبار.

اللهم صل على محمد رسول الله وتعاليمه التي تحاول استرداد إنسانية الإنسان. 

تعليقات