فلسطيننا والحرب الأهلية.. آخر الدواء الكي


أكتب هذه السطور بينما الفرقاء الفلسطينيون – الإخوة سابقا - يتوجهون لبلد الله الحرام لأجل التفاوض لإنهاء الاقتتال البيني الفلسطيني – الفلسطيني، وهذه أولى المفارقات بين يدي. وثاني المفارقات أننا سمعنا عبارات حلول سياسية كثيرة، منها الإسلام هو الحل، ومنها الديمقراطية هي الحل، لكننا لم نسمع مجنونا قال بأن الحرب الأهلية هي الحل. والأكثر مفارقة أننا لم نر أي مجازف سياسي فضلا عن مجنون يقول بأن الحرب الأهلية بين الفلسطينيين هي الحل في ظل وجود احتلال يتربص بالشعب الفلسطيني. ولكني للأسف، ومن خلال متابعات المواجهة الحمسوية الفتحوية على الساحة الفلسطينية منذ فوز حركة حماس بأغلبية قوية في المجلس التشريعي الفلسطيني، خلصت إلى أن حالة فتح التاريخية الآن لن يشذبها، ولن يقيم معها المجتمع الفلسطيني إلا حرب بينها وبين الفصائل الفلسطينية ذات الوعي الوطني بعيد الأفق.

وقبل الاستطراد أنا لا أقول إن الحرب الأهلية هي الحل وأقف. بل أقول إنني لا أعني ما أقول، وكلي أمل أن ينجح الإخوة الفلسطينيون – الفرقاء سابقا – في التوصل لاتفاق تضامن وتفاهم وليس تسوية.


حقيقة ما كنت تفعله فتح

لابد أولا من أن نشير إلى أن فتح ليست كلها اتجاها واحدا. فحركة فتح جرى عليه ما يجري به الدهر على كل قوة تفقد المبررات التاريخية لوجودها واستمرارها. وانقسمت فتح لنجد بينها ثلاث تيارات، بعضها تصهين، وبعضها تكلس، وبعض تياراتها يحاول تجديد رؤيته الوطنية بينما يقبع نصفه في سجون قوات الاحتلال. ومما يؤسف له أن التيار المسيطر الآن هو التيار المتصهين.

ولا يمكننا أن نتفهم سبب هذا الجنون الذي ذهبنا إليه في عنوان المقال: الحرب الأهلية هي الحل، إلا بالتعرف على حقيقة ما كانت حركة فتح تحاول فعله. والغريب أن ما يحاول التيار الفتحوي المتصهين فعله ليس بخاف على أحد، لكنه وجد بيئة عربية تريد فرض وتعميم نموذجها التركيعي لشعوبها بقدر ما تريد فرض وتعميم سلوكها الاستسلامي أمام القوى التي تحتل أراضيها، حتى لا يكون ثمة من يلوم أو يقرع من يقدم مزيدا من الاستسلام ليحصل على مزيد من التسهيلات في مباشرة مهام التركيع.

التركيع. هذه الكلمة هي مفتاح توصيفي لما تقترفه حركة فتح أو التيار المسيطر في حركة فتح الآن من مسلك سياسي. ولابد من أن يعي القارئ معي أن ما تقترفه حركة فتح ليس مضايقة منها لفصيل سياسي مناوئ نجح في سحب بساط الرضاء الجماهيري من تحت أقدامها. بل هو – أيضا - نوع متقدم من العقاب الموجه للشعب الفلسطيني على اختياره الحر وإرادته المتحررة – أو الراغبة في التحرر – من قبضة السيطرة الدولية للجلاد العالمي: الولايات المتحدة.

فلو تحدثنا عن أن الأجهزة الأمنية صارت في يد الرئيس الفلسطيني لا الحكومة، وكذلك الوسائل الإعلامية الرسمية، ولو تحدثنا عن تعيين عدد كبير من أعضاء وكوادر فتح كموظفين في السلطة الفلسطينية.. إلخ، والقائمة طويلة، لكن هذا كله يهون بجانب أن القائمين على السلطة يسددوا ديونا آجلة برواتب الموظفين ليضعوا الحكومة الجديدة في مأزق عد القدرة على توفير لقمة العيش. القائمة السابقة تعون عندما نفاجأ بأن أموال صندوق الاستثمار الفلسطيني نفدت عبر الإنفاق على نثريات حكومية خلال فترة ما بعد ظهور تباشير الانتخابات. إن هذا المسلك وما شابهه من مسالك لا يصدر إلا عمن يريد أن يعاقب الشعب لا الحكومة الحمسوية. فالجميع يعرف أن حركة حماس لها مواردها، وأن الحركة رفضت أن تدفع ثمن تعنت حركة فتح في إنفاق المال الحكومي، لكن هذا لا يعني أن رواتب الوزراء مستمدة من مال السلطة..

فلينظر القارئ الكريم إلى أي مدى ذهبت حركة فتح، أو التيار المتصهين الغالب عليها في إذلال أهلنا من الشعب الفلسطيني. تجويع وحرمان للشعب لا لشئ إلا لأنه اختار حركة حماس في الحكومة. فهل يظن الفتحويون أن إنفاق مال السلطة، المتبقي بعدما اقترفوه من سرقات إبان وجودهم في السلطة، هل يتصورون أن الذي يدفع الثمن هو حكومة حماس؟ لا أظن ولا يظن عاقل ذلك. فالذي يدفع الثمن هو المواطن الذي حرم من راتبه. ذلك المواطن الذي منع من أن يشتري لأولاده القوت ليقيهم الجوع؛ والكساء ليقيهم بردا كالبرد الذي يمر هذه الأيام على بلادنا. والمشكلة إخواننا القراء أننا لو نظرنا للأمر باعتباره صراع تكتيكي تمارسه قوة سياسية، فلا أقل من أن يكون السهم موجها للحركة المنافسة، وليس موجها للشعب.

هذا ما يدفعنا للقول بأن المشهد الفلسطيني ليس أهون من أن يوصف بأنه محاولة لتركيع الشعب الفلسطيني. فالرسالة المباشرة التي تريد فتح المتصهينة إرسالها للجمهور مفادها انه إذا أردت أن تكابد وتعاني وتنكسر مثلما أنت منكسر اليوم فليس عليك سوى أن تعيد انتخاب حركة حماس للمجلس التشريعي. فهل هذه الرسالة لائقة في التعامل داخل إطار ديمقراطي يمنح الشعب الإرادة؟ وما الجهود التي بذلت من أجل محاسبة السفيه الذي أنفق أقوات الموظفين الفلسطينيين لكي يمنع تسليمها للحكومة الجديدة؟ المشكلة أن الوضع الحرج الذي وضعت فيه فتح الحكومة يضمن عدم محاسبة أولئك السفهاء لا لشئ إلا لأنهم محاسيب وصبيان وزبانية السيد أبو مازن، ونحن لم نعتد في فضائنا العربي على محاسبة مسؤول حكومي سابق، وبخاصة إن كان من خدام الرؤساء العرب، حتى ولو كان الجرم المفضوح الذي باشره قد نفذ في حقوق عموم الشعب.

وبرغم هذا كله، فقد تكون هذه المحاولة أيضا مشروعة في نظر بعض قادة وكوادر الاتجاهات اليمينية التي ترى ضرورة هندسة الرأي العام لتعبئته خلف أهداف القوة السياسية السائدة، وهو ما يفتح الباب أمام التساؤل حول مشروع حركة فتح. وسؤالي الآن: أين كان المشروع حين بلغ الفساد والخيانة بكوادر فتح حدود مساهمتهم في بناء وتمويل جدار الفصل العنصري؟ لا شك في أن القراء يعلمون أن جانبا كبيرا من الجدار الفاصل بني بأسمنت مصري استوردته السلطة لبناء مساكن للفلسطينيين ثم أعيد بيعه مع تعذر البناء لأجل القصف. فهل نعيد بيع الأسمنت لعدونا من أجل أن يحاصرنا به؟ ولو استسلمنا لحمى التساؤلات فهل نجد أنفسنا أمام سؤال مفاده أن بائعي الأسمنت طلبوا تغطية مبرر البيع باستمرار قصف إسرائيل لقطاع غزة؟ فطالما أن الخيانة لا سقف لها فإن طرح هذا السؤال وارد بلا تجاوز.

ولو تصورنا ان النخبة فاسدة اقتصاديا، لكنها شريفة سياسيا، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل قدمت فتح المتصهينة لنا سوى حالة استسلام غير مفهومة؟ إن أي مبتدئ في السياسة يعلم أن السياسة هي لعبة تفاوت قوة أو هي لعبة إدارة تفاوت القوة. فكيف نتوقع من قوة سياسية ألقت جميع أسلحتها أمام خصومها من دون استجابة، وتعمل جاهدة لإسقاط القدرة المتبقية من قدرات المقاومة؟ فهل هذا المشروع خليق بالاحترام؟ أم أنه يستحق المقاومة؟ لقد اختار الشعب الفلسطيني رفض مشروع فتح للاستسلام، وتلك كانت النتيجة، حركة فتح تعاقبه لرفضه، وتعمل على تركيعه ليستسلم طوعا لا كرها، وتساعدها في ذلك كل القوى الدولية، التي لن تكون آخر إبداعاتها قوات بدر الانفصالية.


الرشادة.. وعي لا تسوية

إن التواجد بمكة للاتفاق مفتاح أمل. لكنه ليس مفتاحا مطلقا، ولا نسبيا حتى. المفتاح الذي يمنح الأمل هو أن يسعى الجميع نحو التفاهم بحس استيعاب حقائق ما حصل خلال العام الأخير وتداعياته الخطيرة، فيعي الجميع أن تركيع الشعب الفلسطيني وضع خطير، ويفضي إلى كوارث إقليمية. لكن ما كنت أرجوه أن تكون جميع الفصائل "الوطنية" الفلسطينية على وعي بحقيقة تداعيات ما تبذله فتح من جهود لتركيع الشعب الفلسطيني ثانيا، وأن يسبق هذا - أولا - وعي بمعاني ودلالات تركيع الشعب الفلسطيني في مثل هذا الظرف التاريخي، وما يؤلمني أن جلهم يتحفظ عن معرفة التداعيات، ومن لا يتحفظ يمتنع عن التقويم تحت مسمى اعتزال الفتنة أو تجنب الاقتتال.

كلي أمل أن ينجح الإخوة الفلسطينيون – الفرقاء سابقا – في التوصل لاتفاق تضامن وتفاهم وليس تسوية. فالتسوية لا تعني سوى حبس للنيران المشتعلة، بينما الرشادة في إطفائها.

تعليقات