الإنترنت الجديدة المنتمية.. سهم في كنانة غزة


إحدى صفحات موقع متحف هولوكوست فلسطين


كان جزءا من سياسة إدارة الاحتلال الإسرائيلي إثناء إدارته لمجزرة غزة ينصرف إلى ضرورة سوق مبررات لهذه الحرب قائمة على مبدأ مبادرة حركة حماس وسائر الفصائل بالعدوان والقصف الصاروخي بعد انتهاء التهدئة، والتركيز على صورة الإرهاب التي غذتها الآلة الإعلامية الغربية طيلة السنوات السبع الماضية لتمرير المجزرة بدون ضغوط غربية؛ حتى يتسنى لها تحقيق مآربها من العدوان. وانصرف جزء من هذه الحملة الدعائية بطبيعة الحال إلى الإنترنت باعتبارها مكمن النشاط المحتمل للأمة العربية والإسلامية بعد الاطمئنان لوجود توافق بين غالبية إدارات الإقليم على ضرورة إقصاء حماس.


الإنترنت الجديدة.. ما هي؟

حرصت وسائل إعلام صهيونية فردية وخاصة على تصوير أفلام تتعلق بردود الأفعال داخل المستوطنات حيال الصواريخ التي أطلقتها الفصائل المختلفة على المستوطنات، واتسمت هذه الأفلام بالمبالغة الشديدة في التعبير عن الألم والمعاناة؛ وذلك برغم ضحالة الإصابات. وحرصت إدارة الاحتلال على استثمار هذه الموجة من الإنتاج التليفزيوني الفردي، فبثتها لوسائل الإعلام، واستأجرت مساحات على مواقع بث الفيديو على الإنترنت مثل يوتيوب وغيرها لنشر هذه الأفلام، ونشط الناشطون المستوطنون للتعبير عن هذه الآلام. وكانت المفاجأة التي قلبت هذا التدبير رأسا على عقب.

وبداية، لابد وأن نأخذ بيد القارئ ليتعرف معنا على ماهية الإنترنت الجديدة. فالإنترنت قديما؛ والتي كانت معروفة باسم WWW كانت مثلها مثل دور النشر والصحف، تحتاج مبالغ ليست باليسيرة من أجل تصميم الموقع واستئجار اسم النطاق والاستضافة على السيرفرات التي هي بمثابة بيوت لاستضافة المواقع، ثم شراء تطبيقات إنترنت لأجل محتوى الموقع، ثم شراء محتوى، ثم شراء خط إنترنت لتسهيل عملية البث والتحديث والمتابعة.. إلخ. ولم يكن الجمهور العادي بقادر على تحمل مثل هذه المصاريف؛ ولهذا اقتصرت الإنترنت القديمة على من يستطيع أن يتحمل كل هذه التكاليف الضخمة. ومنذ عام 2002أو بعد ذلك بقليل، ظهرت موجة من المواقع تعتبر تطوير نوعي قوي لمواقع الخدمات على الإنترنت مثل ياهو وإم إس إن.

هذه المواقع الجديدة اعتمدت تماما على نظم قواعد البيانات التي شهدت تطورا هائلا مع مطلع الألفية الجديدة، وتنوعت التطبيقات ما بين نظم لإدارة محتوى النشر؛ وهي تلك القواعد التي أدت الطفرة في تطبيقاتها لظهور المدونات مثل Blogger، ثم ظهرت التطبيقات التي تتعامل مع الصور مثل Flickr وPicas، التي تخصصت في استضافة الصور وتحريرها وتيسير سبل العثور عليها في محركات البحث، وظهرت تطبيقات الويب الخاصة باستضافة وتحرير ملفات الفيديو وتسهيل تداولها وتضمينها في مواقع الإنترنت، وكذا ظهرت مواقع التشبيك التي يمكن من خلالها لأي فرد التعرف على أكبر عدد ممكن من الناس، ويضيف لهذا التعرف مساحة التعارف بالتشارك في القضايا والاهتمامات، مع تيسير سبل عرض المحتوى الخاص بهذه القضايا والاهتمامات عبر أكثر من وسيلة مثل النص والصوت والصورة والفيديو في نفس المساحة، فضلا عن وضع برمجيات خاصة بالأحداث ومتابعتها ومجموعات بريدية لتيسير الحصول على الفعاليات الجديدة والمقالات والأخبار التي تدور حولها وكذا الصور والملفات الصوتية والفلاشية التي يمكن أن تخدم القضية التي من أجلها أنشأت المجموعات في مواقع التشبيك.

وإلى جوار هذا نشأت مواقع متخصصة كثيرة ذات وظائف متعددة، منها مواقع للتأريخ، ومواقع للأحداث والفعاليات ومواقع لتنظيم المهام والعون الإداري، ومواقع لتسهيل البحث عن المحتوى الذي ينشره الناس لتيسير الحصول عليه في خضم الإنترنت المتسع متلاطم الأمواج. وكان التساؤل الذي شغل المعنيون بشأن الإنترنت: ماذا تعني هذه الموجة الهائلة من التغيير في بنية الإنترنت؟

فسر الخبراء هذه الحالة بأنها مرحلة ثورية وديمقراطية دخلتها الإنترنت، وهذه المرحلة مبنية على تمويل من خلال منظومة إعلانات اختيارية وفرت التمويل لموجة جديدة من تطبيقات مختلفة للإنترنت، هذه التطبيقات جعلت الإنترنت مساحة إعلامية مفتوحة وليست مقصورة على حائزي رؤوس الأموال. فمواقع إدارة المحتوى استضافت المدونات؛ حيث أصبح بإمكان كل مثقف أو حتى شخص عادي متعلم أن يكون إعلامي ويمارس نشاطا تثقيفيا وتنويريا، يمكنه من خلاله أن يكتب وينشر أو أن يكون مصورا وينشر أو يستخدم هذه النظم لنشر أي معلومات أو آراء يريدها دون أن يكون لأي أحد سلطة منعه. ومثل ذلك بالنسبة لبقية المواقع.

ولم يعد فقط بإمكانه أن ينشر، بل صار بإمكانه أيضا أن يشن حملة قطرية أو إقليمية أو عالمية وسط كل من يعرف من أجل التعريف بما ينشر، وحشد الناس من كل أنحاء العالم خلف قضيته. وأصبحت فاعلية الفرد على الإنترنت متوقفة على تعليمه وثقافته وعلى قدراته الاتصالية مع الناس ومهاراته في هذا الإطار. ووقعت المعجزة.


الإنترنت الجديدة ناشطون من نوع جديد قديم

راهنت شريحة من صانعو القرار على إمكان كسب الرأي العام العالمي أو على الأقل تحييده من خلال نمطين من أنماط العمل الإعلامي، أولهما العمل الرسمي التقليدي العادي عبر تسريب تصريحات مغلوطة لوسائل الإعلام، وإجراء المكالمات الهاتفية للحصول على إعلانات مدفوعة الأجر من الحكومة الأمريكية واللوبي الصهيوني في الصحف ذات الراية اليمينية الزرقاء، والاتجاه الثاني تمثل في تكوين تدفق إعلامي فردي ومجتمعي عبر وسائل الإعلام الجديدة؛ وبخاصة الإنترنت الجديدة لمواجهة أية محاولة عربية أو إسلامية للنشاط الإليكتروني. ولم تكن القوة الصهيونية في المجال الإعلامي الجديد بشقيها الفردي والمجتمعي كافية لمواجهة التدفق الإعلامي الأهلي الذي أنتجه العرب بصفة عامة، وبخاصة الجمهورين المصري والسعودي.

وقد انقسم التعامل العربي الأهلي مع الأزمة إلى مرحلتين أساسيتين:

المرحلة الأولى: لم تكن ثمة صور وأفلام فيديو أهلية قد توفرت لدى الناشطين الإعلاميين الإليكترونيين العرب، وهو ما حجم إسهاماتهم وحصرها في الجهود ذات الطبيعة النصية. فكانوا ينتجون مقالات وأخبار، ويعيدون تداول الأخبار التي تنشرها الصحف والمواقع الإسلامية، ويتداولون روابطها، ويديرون النقاشات حولها.

المرحلة الثانية: بدأ بعض الناشطون الفلسطينيون في إرسال صور المذابح عن طريق الهواتف الجوالة. وأخذ ناشطون عرب في تجميع صور المذابح الوحشية من خلال المواقع الإعلامية الإليكترونية العربية، وبدأ الجميع في استخدام مواقع الصور في نشر الألبومات المصورة، واستخدام المجموعات البريدية لتوسيع دائرة انتشار روابط هذه المواقع.

وترافق مع ذلك قيام عدد من الناشطين ذوي الإمكانات المادية الميسرة في تسجيل برامج المتابعة الإخبارية من الفضائيات العربية وتحميلها على مواقع الفيديو العالمية. وبدأت دائرة تدوير هذه الروابط في الانتشار والتوسع. وظهر اتجاه لدى بعض مستخدمي مواقع مثل فيس بوك وهاي فايف لنشر محتواهم باللغة الإنجليزية، وتداوله مع أصدقائهم خارج دائرتي العالمين العربي والإسلامي. وظهر إثر ذلك اتجاهان:

الاتجاه الأول: بدا أن توسيع دوائر انتشار روابط الفيديو وألبومات الصور، وبخاصة خارج نطاق العالمين العربي والإسلامي قد أتى ثماره، فلم يكد مسلمو أوروبا في التحرك لنصرة غزة حتى وجدوا استجابة قوية جدا في شوارع أوروبا. وبحسب تعبير أنس التكريتي القيادي البارز وعضو البرلمان الأوروبي عن المملكة المتحدة سابقا أننا وجدنا الناس هي التي تأتينا ولم نكن نذهب إليهم نحن. ويبدو أن الاتصال الإعلامي الشخصي هذه المرة والمصحوب بالأدلة الدامغة بالصوت والصورة كان أقوى بمراحل من آلة الإعلام الموالية للحالة الصهيونية.

الاتجاه الثاني: بعد ذلك النجاح الهائل الذي لمسه خبراء الإعلام الجديد لهذه الوسيلة شرعت شرائح من المجتمع السياسي والإعلامي العربي في اتخاذ مبادرات لتوسيع دائرة الاستفادة من هذه الأداة التي أثبتت بالفعل كفاءتها، وتحركت المنظمات النقابية في العالم العربي وبخاصة في مصر لتكريس مواقع وإنشاء مساحات افتراضية وتخيلية عن المجزرة كان أبرزها جزيرة هولوكوست غزة التي أسسها مصريون في عالم الساكاند لايف Second Life، وهي الجزيرة التي تضمنت توثيقا ثلاثي الأبعاد لمحرقة دولة الاحتلال في غزة.

الجهود التي بذلها الناشطون الإليكترونيون في هذا الصدد كانت قوية واحترافية ومنوعة، وتوثيق هذه الخبرة كان مهما، ولو أن المقام لا يكفي، إذ يحتاج الأمر لقدر من التفصيل يوفي هذه الظاهرة المنتمية حقها، ويستفيد من دروسها. وحتى تجري هذه الدراسة نعتذر بهذه الكلمات الموجزة.

تعليقات