البوعزيزية المصرية.. نمط احتجاج النخبة والجماهير


وسام فؤاد

لا يخلو أسبوع مصري من مشهد مشابه لمشهد بائع الخضروات التونسي محمد البوعزيزي، حيث يطرح رب أسرة نفسه أمام قطار الإنفاق أم يلقي نفسه من بناية شاهقة نسبيا، أو يتدلي من فوق لوحة إعلانات مشنوقا، احتجاجا على عدم قدرته على توفير الحد الأدنى من متطلبات المعيشة لأسرته برغم أنه يعمل لمناوبتين، أو على حيلولة ضعف إمكاناته دون تنفيذ هذا الحلم أو ذاك من طموحات حياته. غير أن العام الأخير شهد مسارا بوعزيزيا آخر بين النخبة السياسية المصرية، حيث باتت رموز سياسية تدفع نفسها للاعتقال بعد الإقدام على إجراء يصل صداه للجماهير. ربما كانت آخر حلقة في هذا الصدد هي حلقة السفير معصوم مرزوق وأقرانه في القضية التي تحمل رقم 1305 لسنة 2018.

لن أخص بحديثي في هذا المقام ما يعرفه الإعلام المصري اليوم باسم "اعتقالات العيد"، بل سأذهب لما هو أبعد من ذلك. فتقييمي أن تيار إقبال "الحكماء" المصريين على التضحية بـ"الأمن الشخصي" تيار أوسع من "اعتقالات العيد"، يتسع ليضم د. عبد المنعم أبو الفتوح؛ رئيس حزب مصر القوية (70 عاما)، والمستشار هشام جنينة؛ الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات المصري (65 عاما)، والباحث والإعلامي هشام جعفر؛ رئيس مجلس أمناء المركز الإقليمي للوساطة والحوار (60 عاما)، والمهندس حازم عبد العظيم؛ الرئيس السابق لأحد مسارات حملة رأس إدارة 3 يوليو لرئاسيات 2014 (60 عاما)، والإعلامي ورجل الأعمال عادل صبري؛ رئيس تحرير موقع مصر العربية ورئيس مجلس إدارة بيت الخبرة الإعلامي O2  (60 عاما). بل إنه يتسع أكثر ليعبر عن تيار؛ ربما يتضاءل، داخل القوات المسلحة المصرية على نحو ما بدا في التنكيل بالفريق سامي عنان؛ الرئيس الأسبق لأركان القوات المسلحة المصرية (70 عاما)! والقائمة تطول لتطال رموزا سبقوا للسجون التي يتزايد عددها باضطراد منذ 2013، ورموزا تأخر انضمامه لقائمة الدفاع عن مستقبل مصر، السفير معصوم مرزوق (70 عاما)، الأكاديمي المصري الدكتور يحيى القزاز (62 عاما)، وآخرين. ولهؤلاء الأخيرين وجهت اتهامات من قبيل "مشاركة جماعة ارهابية في تحقيق أهدافها"، و"تلقي تمويل بغرض إرهابي"، و"الاشتراك في اتفاق جنائي الغرض منه ارتكاب جريمة إرهابية".

"الحكماء المصريون" تتراوح أعمارهم بين 58 عاما و72 عاما. ولا يمكننا عند التعاطي مع موقف هؤلاء الحكماء أن نغفل طبيعة الظروف التي يعيشها المصريون داخل السجون المصرية، حيث لا يسمح بتمرير الدواء للمسجونين على خلفية سياسية، ولا ينظر لصحتهم بعين الاعتبار، وتشهد قرارات إحالتهم للفحص الطبي بالمستشفيات التي تستقبل المعتقلين تلكؤ واضحا، ما دفع أكثر من منظمة حقوقية دولية بفتح تحقيق دولي في ظروف الاحتجاز في السجون المصرية، وبخاصة بعد وفاة أكثر من 100 معتقل بسبب أمراضهم التي دخلوا بها سجون 3 يوليو، ومع رصد هذه المنظمات لمخاطر تهدد حيوات نحو 5000 معتقل. في هذا الإطار، يعتبر اتجاه "الحكماء" لتعريض أمنهم الشخصي لهكذا ظروف من قبيل "التضحية". ومن خلال قراءة ملامح الوضع السياسي المصري، يمكن الخلوص بسهولة إلى أن اختيار هذه "الحكماء المصريين" لذلك الطريق المحفوف بالمخاطر مرده تلاشي المجال العام، وانسداد أفق المشاركة السياسية، مع توفر قناعة عامة بأن مآلات الأمور في مصر مظلمة. ويجدر أن ألفت إلى أن الحديث عن "التضحية" ليس توصيفا قيميا، بل موضوعيا. وثمة سوابق عدة تكشف حقائق توجه إدارة 3 يوليو حيال المعارضين، فبلوغ المستشار محمود الخضيري أرذل العمر (80 عاما) لم يشفع له أمام محتجزيه، نفس الأمر ينطبق على مرشد جماعة الإخوان الأسبق محمد مهدي عاكف الذب اجتمعت قوى المعارضة المصرية على طلب تقدمت به لجهات الاحتجاز بالإفراج عنه لدواع صحية بجانب داعي العمر، فقد كان يبلغ من العمر ما يربو على التسعين عاما ونيف.

وبقدر ما إن الحديث عن "التضحية" موضوعي، فإن الحديث السابق عن كون هذه "التضحية" اختيارا وطواعية لا قسرا بمثابة حكم موضوعي كذلك. كان المستشار جنينة يعلم هذه التفاصيل وهو يدلي بتصريحاته الكاشفة لموقع "هافنجتون بوست العربي"، وبرغم ذلك اختار المواجهة. وكذلك كان د. عبد المنعم أبو الفتوح يعلم أثر انغلاق المجال العام عليه حال إجرائه حواراته الثلاثة مع قنوات "بي بي سي" و"الجزيرة" و"تلفزيون العربي". السفير معصوم مرزوق كذلك كان يعلم بما حدث لرموز عسكرية ومدنية سابقة جسرت على اقتحام سياج الحظر الذي فرضته إدارة 3 يوليو حين تقدم بمبادرته التي دعت لاستفتاء على استمرار رأس إدارة 3 يوليو في سدة الرئاسة. وكذلك كان الجيولوجي الاكاديمي د. يحيى القزاز يعلم مدى إمكانية تضرر أمنه الشخصي مع الهجوم الشرس الذي شنه على إدارة 3 يوليو في أعقاب اعتقال السفير معصوم مرزوق، بل إن تلامذته طالبوه بتخفيف حدة لهجة الهجوم، إلا أنه آثر التضحية على غرار صديقه. وكذلك كان يعلم هشام جعفر حينما أصر على دفع الأحزاب المصرية لاستكمال متطلبات حوكمتها وتعزيز النقد الداخلي فيها. ورفض الإعلامي عادل صبري اللحاق بركب إعلام الصوت الواحد مستأنفا رؤيته الوفدية الليبرالية التي ترى في الصوت الآخر المعتمد على المعلومة الكاملة مدخلا لتأمين مستقبل مصر.

واضح في هذا الإطار أن هناك بعد آخر لتلك التضحية التي يقدمها "الحكماء المصريون". فكما أشرت سابقا فإن هذه تضحيات هؤلاء الحكماء سبقتها مساهمات نوعية أو ذائعة في المجال العام، أثارت جدلا وردود أفعال، سواء أكانت هذه التداعيات إيجابية أو سلبية. وفي تقديري، أن ردود الأفعال جميعها أسهمت في منح هذه المبادرات أو المساهمات ذيوعا قويا، وكفلت مجرد الوعي بها، وضمنت ما هو أكثر من ذلك، حيث ضمنت ربط القواعد الجماهيرية بين هذه المساهمات وبين ردود أفعال إدارة 3 يوليو بالغة العنف حيالها. لا أدري أمقصود هذا الذيوع؛ بشقيه السلبي والإيجابي؛ أم أنه محض مصادفة، لكنه أكثر من كاف لتحقيق "حالة" وطنية ربما تغياها أولئك "الحكماء" من جراء "التعرض للاعتقال"، ألا وهي إعادة اللحمة والارتباط بين القاعدة الجماهيرية ونخبتها، وهو رابط افتقده المشهد السياسي المصري كثيرا. لم يعد د. عبد المنعم أبو الفتوح ذلك النخبوي القابع في فيلته بضاحية التجمع الخامس، وكذلك الحال فيما يتعلق بمساعد وزير الخارجية الأسبق معصوم مرزوق، أو حتى المستشار هشام جنينة "فاضح الفساد"، بل تحولوا إلى طليعة، وساهمت محدودية أفق إدارة 3 يوليو في تعزيز عملية توثيق النخبة الديمقراطية لعلاقتها بالقاعدة الجماهيرية عبر لجوئها للمعالجة الأمنية لهكذا وضع حساس في مثل هذا الظرف التاريخي الملتهب.

يحتار المراقب – وهذا حالي – هل يمكن اعتبار "اختيار التضحية" نهجا عشوائيا فرديا باعتبار القيادات التي لجأت لهكذا تضحية مختلفة جزئيا في رؤاها وأفكارها وخلفيتها التعليمية والمهنية، أم يعتبرها إستراتيجية عامة تفضل النخبة الديمقراطية المعارضة بألوانها المختلفة لإيقاظ الجماهير وتنبيهها إلى أن نخبتها تضحي بأمنها الشخصي وعرضها السياسي من أجل تحسين أحوال هذه الجماهير اقتصاديا وأمنيا واجتماعيا من باب استعادة المجال العام المغلق حاليا، والذي يفتح بإغلاقه الباب أمام فساد واضطراب قرار من شأنه أن يعقد مسيرة مصر نحو المستقبل. غير أن اللجوء لهذا التفسير أو ذاك يؤكد حقيقة أن المجال العام تأزم لدرجة خانقة، وأن انسداد الأفق لم يترك للنخبة السياسية الديمقراطية المصرية سوى هذا البديل.


اضغط على العنوان للذهاب للنص في موقع النشر الأصلي

تعليقات